قوالب السيد هسه



قوالب السيد هسه 








بالإمكان رصد وتحييد عدة قوالب فنية، تقلّبَ وتنوع فيها إنتاج هرمان هيسه، لكنَّ قالب الهروب والعودة هي الفكرة الأم النهائية التي سعى إليها هيسه، بينما تشكل القالب الموضوعي الأكبر أو النهائي في التأمل فالإجابات فالوصول. وهو يناقش في قوالبه موضوعات تطغى على القصة، كمشكلات الصفاء واليقين والقلق والجمود باعتبارها مشكلات اعتيادية طبيعية وإنسانية تحمل زخرفة شيقة من المعالجة، ولكن لتستقر على أرضيات صلبة من موضوعات كبرى كالوجود والفناء، ثم البحث عن سبل الإدراك والوعي بها كقضايا عظيمة تهم الإنسان والانسان الباحث.


في بدايات هيسه نلحظ تلك المساحة التي يمكن أن نقرأ فيها محاولاته لإيجاد قوالبه التي ترتضيها موضوعاته وتحتملها. فنقرأ في "المغامرة الأولى" بعضاً من قصصه المصورة لواقعه ومشكلاته الذاتية آنذاك 1904 -1909 تقريباً، كقصتي " من داخل الورشة" و " الميكانيكي المساعد"، فهو ينقل إحدى تجاربه التي عاشها عندما تنقل بين عدة أعمال منها عمله كميكانيكي في ورشة. وهذه البدايات عززت حبكاته الفنية بتنوع القوالب والقصص، فنقرأ تحليله للشخصيات وتصاويرها الرومانسية وهو يحاول عبرها أن يجد موضوعه. وحين وجده تمكن منه وبقي أسيره حتى النهاية.


نلمس بحثه هذا عن القوالب الفنية والموضوعية، في قصص "أحلام الناي" وهو يرتكز كثيراً على الغوص في الطبيعة، وكشفها، وشق طريق بينها وبين طبيعة الانسان لتتمازج وتندمج بها. تفهم النفس هذا الوجود فتتماهى معه. وقد جلب هيسه الطبيعة معه كقالب مشترك رئيس في أعماله الروائية فيما بعد، فلا يمكن أن تقرأ عملاً له دون تجد صلاة هيسه واعتناقه وتقدسيه للطبيعة، كما نقرأ في "سيدهارتا" ارتكاز القالب الموضوعي على الطبيعة والنهر والغابة باعتبارها صوتاً موجهاً ودليلاً للهارب في طريق عودته الصعب. الطبيعة والغابة هي أيضاً سنوات الضياع والتجوال والتشرد التي أبدع هيسه خلقها فيما يشبه العالم الحالم، ولكن أيضاً في حيز من فوضى رهيبة.


الهروب ثم العودة هو موضوع هيسه الرئيس في رواياته، ويحضر هذا القالب بمعالجة جدية شائكة وصادقة في "سيدهارتا". على سبيل المثال، تبدأ الحكاية بوجود البطل في طريق يشبه طريق العودة بما فيه من الزهد ومقصد تطهير النفس، لكنه يرفضه من أجل رحلة الهروب والتجربة والاختيار ذاتها، ليغرق في شهواته حتى يتجبر ويتسلط ويفقد ذاته. يخور البطل ويعود إلى بوذا والمعنى والمقصد، وهو في طريق العائدين يفتش عن عودته الخاصة الخالصة ليجدها في الطبيعة وملاحة النهر، واتخاذ الملاح صديقه ومعلمه، حيث الزهد مرة أخرى والتطهير بالصوم والانتظار والتفكير، والبحث عن الخلاص عبر التأمل فالوصول. هنا يحاول هيسه أن يصيغ معنى الهروب والعودة لتكن تجربة ذاتية خاصة تصل بالنفس إلى مرادها من الوعي بالهروب والوعي بالعودة.


في رواية " تحت العجلة" وهي من أوائل أعماله، يحكي ما يشبه سيرته الذاتية، تنقل فيها بين البطل "هانز" وارتحاله للمدرسة الدينية. وهذه هي القصة الحقيقية لهيسه، التي تقول إنه هرب من المدرسة الدينية ورفض رغبة والده المبشر بإعداده كرجل دين. يوزع هيسه شخصيته بين البطل بما فيه من سمات الهدوء والتأمل والسؤال وبين شخصية ثانوية "هاينلر"، يصادقه البطل في المدرسة. وفيه صفات الرفض للمدرسة والتعاليم وأسلوب الحياة المتزمت. هذه الواقعة في حياة هيسه صاحبته كقالب فني وموضوعي في معظم أعماله ولم يستطع أن يتحرر منه وبقي أسيره حتى حوى أكبر وأعظم أعماله "لعبة الكريات الزجاجية" التي حصل بها أو بعدها على نوبل.


إذاً الدين والتدين هو موضوع هام يقبل في صورة اليقين والصفاء والعودة بعد الهروب الطويل والمرير. في كتاب "التجوال" الرائع يتحدث بحب عن المسيحية وكيف يفترض فهم التدين عند القس وعند المتدين البسيط، وبعضاً من ذكرياته وتأملاته في الدين المسيحي.


ويعود هيسه في كل مرة للمدرسة الدينية، ففي "نرسيس وغولدموند" تبدأ الرواية من الدير، وكذلك في "دميان" يعود في الفصل الرابع إلى المدرسة الدينية الداخلية، ونجد هذه الأجواء التي يحدث فيها تلقي التعاليم في "سيدهارتا" وغيرها من الأعمال.


كان هيسه مهتماً ومنغمساً جداً في الموسيقى والرسم والشعر والنحت، إن هذه الموضوعات هي الملامح الرئيسة في شخوص أعماله، ففي رواية "ذئب السهوب" يهيم البطل المنعزل الذي رفض الحياة الصاخبة من حوله في موسيقى موزارت، وفي رواية "غرتود" البطل هو شاب موسيقي يحاول أن يتعاطى مع حزنه وعزلته بتأليف الموسيقى والتعرف على أستاذ موسيقى ليستحث المخزون الموسيقي الهائل في جوف البطل. وفي "لعبة الكريات الزجاجية" الموسيقى هي إحدى المواد الرئيسة في مدرسة كالستيا، وفي العصر الكاستالي.


تشابه تفاصيل القوالب والشخصيات متماثل وغريب عند هيسه، فالبطل في "غرتود" هو موسيقي منعزل غير مشهور وغير مُلتفت إليها، يقدم موسيقى عظيمة. كذلك الرسام في رواية "روسهالده" هو رسام وفنان مبدع منعزل يرسل لوحاته لتباع في باريس، لكنه أيضاً على قدر عادي من الشهرة. بينما تحفل رواية "نرسيس وغولدموند" الرائعة بهيام غولدموند العجيب بالنحت، واستلهامه كأسلوب يجد فيه صفاءه وطريق عودة من هروبه وتشرده وتجواله الطويل.


نجد شاعرية هيسه في تصاويره المعمقة والشجية الهائمة، إضافة إلى نصوصه الشعرية التي نجدها في كتاب "التجوال" البديع، وكذلك في فصل "قصائد التلميذ والطالب" في "لعبة الكريات الزجاجية" بوضوح، مع ما يعتري الشعر كثيراً من مشاكل عند الترجمة، بالطبع.


وحين نبحث العائلة عند هيسه، فهناك مشكلة جلية تتلخص في سوء التعاطي مع الأبوين. وكثيراً ما نفقد الأم في أعمال هيسه، فهي غير موجودة، أو أنها ترحلُ مبكراً لتحل كإثم عالق لا تعرف الشخوص كيف تكفر عنه، وقد نجد شكلاً ملتبساً من العلاقة مع الأم كما في رواية "دميان"، أو تجسدها الطبيعة في "نرسيس وغولدموند" فالطبيعة هي الأم في هذه الرواية. وفي أحيان يميل هيسه لمحاولة احلال شكل ما من التراضي والتعاطي بين الطرفين يتفقا عليه، كما في "غرتود".


من القوالب العجيبة عند هيسه، الصداقة. أو تلك العلاقة الغير مسماة التي يمكن أن تحتمل شكلاً ما من العلاقة بين تلميذ وأستاذ. فيقدم شخصية المساعد أو الخادم كإطار لشخصية التلميذ التي تقدس المعلم وتطلب ما يخفيه من تعاليم وأسرار وفنون. يُخلص الطالب ويتذلل ويوقف نفسه ليثبت جدارته واستعداده للحصول على هذه الأسرار والتعاليم. يظهر هذا التلميذ دائماً في هذه الصور من التوسل والتذلل والخضوع لمعلمه، ولا أتذكر أن أياً من روايات هيسه التي قرأتها خلت من هذا القالب العجيب. لا شك أن أثر وذكرى المدرسة الدينية لم تبارح هيسه طوال الوقت. فالصديق هو القديس يحمل أسراراً، يظهر هذا جلياً في رواية "دميان" الصديق المبهر الأعجوبة، الذي يساعد البطل ويحرره من أزماته، ويطلعه على رؤوس الأسرار وما يستبطنه من القوة الذاتية، ثم ينقطع عنه ليضيع البطل في رحلة الهروب المعروفة عند هيسه، ثم يلتقيه أخيراً في طريق عودته، ولا زال "دميان" الصديق، بشخصيته العجيبة وبديهته، ونباهته وغموضه وعمقه.


في "سيدهارتا" يصبح الملاح "فازوديفا" الصديق هو الملجأ الأخير والدليل الوحيد للتوحد بالوجود والتجهز لرحلة الفناء عبر الالتحام بالطبيعة/ النهر. وحاولت أن أفهم ما يود هيسه دائماً أن يقوله عن الصداقة، وقوانينها الغريبة، فالصداقة هي الجانب المريح والمضطرب في أعماله. نجدها في "روسهالده" مريحة كأنها ملجأ للصفاء والراحة، وهي في "غرتود" متوترة شاذة وغريبة، بين البطل واستاذ الموسيقى. إن هناك حالة من التقابلية بين التلمذة والعبودية في مقابل قدسية المعلم والأستاذ، ويمكن أن أقول إن لدى هيسه هوسٌ نفسي غير مفهوم -ربما ينطلق من تجربته القديمة - بتقديم شخصية المساعد، فالأستاذ المساعد، والصديق المساعد، والبطل ذاته المساعد والذي يرتقي في مساعدة أستاذه أو "عرابه" ليتحصل أخيراً على رضاه والجدارة بصداقته ومن ثم معاملته ومقابلته كالند.


في رواية "دميان" نقرأ مشكلة إله الشر "البراكاس"، التي تمثل مع غيرها خيوط أجوبة العودة على أسئلة الهروب، وسعي البطل لاعتزازه بتجربته الشخصية في محاولته لفهم الخير والشر. ومع أن هيسه جمع في هذا العمل مشكلات الصداقة والطفولة والموسيقى والرسم والعزلة كعادته، إلا أنه راح يؤكد هنا على قالب مهم في رواياته يتعلق بالفهم الفردي والإجابات الشخصية الذاتية الخاصة. في جو من احترام وحب خالصين وعميقين لكل تجربة تنشد الوصول لوعيها الخاص، خالياً من تعاليم الجماعة. هكذا أيضاً في "سيدهارتا" والبطل يسعى لإيجاد أجوبته الذاتية متأملاً بعيداً عن الجماعة.


وقالب التجربة الفردانية يمثل طبيعة الشخصية في أعمال السيد هيسه. احترام الوعي الذاتي بهذه التجربة مطلب ضروري في وعي الشخصية، كالوعي بالخوض في الخطيئة وكذلك الوعي بالعودة، وهذا التركيب الفني الثابت إنما يشير دوماً إلى التقدير والثقة بما تتوعاه التجربة من الوصول والجدارة بأحقية الوصول.


وإذا كنتُ لا أزال أحاول أن أتوعى تجربة السيد هيسه الإبداعية، فإني وجدت من الممتع أحيانا أن اقرأ السيد هيسه ذاته، حيث إنه صادق ومخلص لأسئلته الداخلية وحيرته وتأملاته. وقارئة أو قارئ أعماله يجد لديه أحياناً سذاجة فنية في التغلب على قوالبه وتفاصيل القوالب. على الرغم من عبقرتيه في إثراء هذه الموضوعات في كل مرة يحيكها داخل إطار عمل ابداعي مختلف، فهناك شكل من التكرار والتشابه في تفاصيل القصص، فعلى سبيل المثال، أتذكر كيفية حصول المتشرد/البطل في "سيدهارتا" على عمل بسبب اتقانه اللغة اللاتينية واليونانية، ثم العمل مع رب العمل كندّ له، ونلتقي بذات التفصيل الغريب في "نرسيس وغولدموند" حين يود المتشرد/البطل الحصول على عمل. مثال أخر يتعلق بالنفاذ النهائي لتحقيق معنى البطل من السعي، سواءً كان موسيقياً أو رساماً أو نحاتاً، ففي "روسهالده" يرغب الرسام في رسم لوحة أخيرة تحمل كل وعيه وخلاصة تجربته لتجسد طفلاً بين أبويه. في "نرسيس وغولدموند" يرغب غولدموند أخيراً في نحت تمثال الأم ليجسد تجربة وعيه النهائية والأخيرة. إنها الفكرة المتلبسة التي تمثل له النهاية والعبور إلى الفناء والخلود. تفصيل علاقة الطفل بالبيت وأصدقاءه الأطفال، نجده في قصة "أزمان الطفولة" في كتاب "المغامرة الأولى"، ونجده في الفصول الأولى من "تحت العجلة"، وكذلك في "روسهالده" و "دميان" بشكل أكثر وضوحاً وتشابهاً. كذلك حضور الثقافة الدينية الهندية في أعماله، حيث تتشارك بعض أعماله هذا التفصيل، كـ "روسهالده" و "سيدهارتا" و "لعبة الكريات الزجاجية"، وهذا لقرب تجربة هيسه الشخصية مع الثقافة الهندية، فقد عملا والديه مبشرين في الهند وهو أيضاً كانت له رحلة إلى الهند.


أخيراً، فإن فهم هذه القوالب خلق شكلاً متعباً من التنبأ، ففي كل مرة كنت أتنبأ فيها بحدث قادم كان السيد هيسه يوافق هذا التنبأ. وشعرت كثيراً بهذا الضعف الفني في مجمل ما قرأت، خاصة في العمل الأخير "لعبة الكريات الزجاجية". فكم شعرت بالإشفاق على السيد هرمان هيسه، ورحت أتذكر القالب السحري البديع المشابه لهذه اللعبة في نهاية رواية "ذئب السهوب" وعيشه في قوالب روايته دوماً. شعرت بالإشفاق على السيد هيسه وهو يكرر ذكراه التليدة، ويخلق جزءً كبيراً من العمل فيما يشبه المدرسة الدينية، تقوم على التراتبية الهرمية، ولتكن عالماً موازياً للعالم الخارجي. إنه عالمٌ جديد، بقوانين خاصة معقدة منعزلة عن عالمنا، عالم أفلاطوني. العالم المثالي الشاعري، والذي يعرف جيداً السيد هيسه أنه لا يمكن أن يكون إلا في رواية كهذه. ومع حق وقدسية التجربة إلا إن البطل كالعادة يهرب منه.


على الرغم من ثقافة هيسه الكبيرة والمتنوعة والتي وظفها في هذا العمل، إلا إني كنت مشفقاً وناقماً! فهذه الرواية التربوية، هي كتاب لآراء هيسه الأخيرة عن عصر الصحافة والذي أسماه "عصر صحافة التسلية" وعن الفنون والتاريخ والفلسفة وغيرها في إطار القالب الفني المعروف عنده ومن تداعي التجربة الشخصية للبطل يوزف كنشت والتدرج في تعلم لعبة الكريات الزجاجية، ووقائع التفاعلات الانسانية في هذا العالم المثالي الجديد، أقول إلا إنها كانت حِملاً ثقيلاً، تشبه جملاً غاصت قوائمه في تل رملي هائل.


ربما كان من الأفضل أن أقرأ هذا العمل أولاً قبل حتى أن أرسم للسيد هيسه عالمه، فهي رواية عظيمة كتبها على مدار أكثر من عشر سنين، وهي أيضاً تحمل قالب الهروب والعودة، وتحمل التدرج في أخذ التعاليم، والاستاذ المساعد، والانعزال والجمود والجفوة والانضباط، إنها الفوضى النهائية الرائعة التي أراد هيسه أن يحيكها، وهي تمثل لوحة مقابلة لزمن الحرب والفوضى العالمية التي كتبها فيه. كم أشفقت على السيد هيسه.. في هذه الرواية، على عوالمه وأفكاره وكأنها لم تعطه السلام الذي أراده وأخذ يجترها- مع أنى احترم، كما علمني السيد هيسه، تجربته الخاصة وأحبها من أجله. قلت مرة في منتصف هذا العمل العجيب: يا له من هراء كبير مُحكم!


2015 
التتمة... Résuméabuiyad

استكمالات لعبدالودود - Updated


 



زبون الليلة يريد جلداً، يريد ذلاً وقهراً يحرق رحيق الحياة وأنا أحب هذا النوع من الجلسات. المشكلة أنه كان يهذي عن قصصه مع طلابه في المدرسة، واتضح لي أنه متيم بأرجل طالباته. ولما سألته أخذ يحدثني بشهوة رهيبة وهو يحك وسطه ويعدل نظارته على أنفه، عن الفتيات الحلوات الغبيات اللاتي لا يفهمن دروسه البسيطة في الكيمياء. ولما سألته هل أنت غاضب أو مستاء من عدم فهمهن، احتار. قلت إذن على ركبتيك، ابدأ بقائمة الجزمة، نظفها جيداً بلسانك، أريد أن أرى لساناً أسوداً. رأيت وجهه يشع سعادة، وهو يكاد ينهار. الأرض، ألحس الأرض. تمددَ الأستاذ على ظهره. وأفتح فمك، لدي هدية لك، كل طالباتك سيبصقن في وجهك. أخذ وجهه يتلوى وراح يسأل وهو يحك عضوه بين فخذيه بحماسة: هي معهن؟ من؟ عبدالودودة؟ عبدالودودة ليست معهم، عبدالودودة تريد منك شيء أخر. ماذا تريد؟ لازالت هناك بقعة، كن خنزيراً مطيعاً ولا تسأل. قلة من زبائني من يحتملون هذا الكم الشرس من الجلد، وقلة منهم من لا يطلبون أن أتوقف حتى وإن شموا رائحة دمائهم على السوط، أوتسيل على ظهورهم وأفخاذهم التعيسة. ماذا تذكر لي من الحياة؟ لقد كنت شاباً رياضياً مشرقاً، أسابق في الماراثونات كالحصان العنيد. كبرت في الحياة والدوائر تدور.. أنتِ لا تعرفيني. وأنت لا تعرفني! لنههي هذه الجلسة بلا خسائر، لك أن تبكي، البكاء رقيق، يربت على العمر الذي مضى فجأة. قال قبل أن يخرج، لا أدري لماذا! لا أحد يا أستاذ يدري لماذا، الحياة تغيرنا، أنا أحترمك، لا أحكم عليك، وليس لأحد أن يحكم على أحد، خذ دشاً سريعاً، لدي زبون أخر ينتظر.







لم أرى في الأحلام أحداً، لا المستنقع الغويط، ولا أشجار الجن التي تمشي، ولا حتى أبي يقف على قرن الأرض ويجلدها بسوطه كلما توقفت. لم أرى سميرة تتخالج على دراجتها وتسقط من جرف المنحدر على أم رأسها، ولم أرى زكريا يشق بالمنشار بذرة كبيرة ويفج منها دم الأطفال المولودين، لم أرى الكلب المسعور والفأس منشوب في بين عينيه، ولا السحالي المذابة في مياه الجبل الحار، لم أرى في نومي قلقاً أو حيرة أو وجداً يلاعب الذكرى أو يقترح سلوة، وحتى أني لم أرى جموعاً تحملني على أكتافها قبل أن تشوي لحمي وترمي عظامي لكلاب المقبرة. رأيت عتمة في الأفق، بين عيني وعلى أجنابي. عتمة حلوة كحلاوة العناق، وحتى إني تحسست دمعي يخترق جلد وجهي ويطبب قلبي. رأيت في العتمة جدتي صالحة تضحك لي، ورأيت أمي تقول لها اشعري، ورأيت جدتي تجيب قد نسيتها كلها، ورأيت أمي تقول بصوت يصل لأذني جدتي قد كان معها كثير. ورأيتني في حوش جدتي، بجانب البركة تحت شجرة اللوز وأحواض الريحان أمرر أصابعي بين مربعات السياج. وقلت لجدتي لماذا رائحتك حلوة يا جدتي؟ وقبلتني وهي عادة لا تقبلني. وهمست في أذني خلك رجال، خلك من أبوك! ونمت في نومي، هكذا نمت مع العتمة الحلوة يا دكتور. لا أدري ولكن هذه النومات نادراً ما تحدث، كندرة خسوف الشمس، جداً نادرة يا دكتور. إنما في الغالب أحلامي هم المستنقع والأشجار وسميرة وزكريا وأبي والسحالي والكلب المسعور يطاردني والفأس مغروس بين عينيه.







حتى الوحوش التي راحت تسرح في قلبي منذ قرن أصابها الملل من الجوع والشبع، حتى أمي التي ساقت الوحوش من هضاب رأسي الندفة القديمة الناعمة إلى صقيع الوديان الصامتة الهاجعة القاتلة في قلبي جلست في بطن الدار وامتنعت عن الخروج، حتى عبدالودود قط جاري سئم تجواله في الحي والخربشة على بابي، حتى أنا مللت النوم والإستيقاظ، الصحو والنجوم والكلام، حتى خنجري اعتزل القتل، حتى الراعي اعتزل المطر والعشب، حتى الرسم الفظ على وجه أبي ساح من مسامه، حتى الرجل الذي يحمل الصُوُر مل الانتظار وتخدرت ذراعاه، حتى الدم الجاري في قلبي فقد رغبة الدوران، حتى أنا نسيت أن أحك فرجي في فرج الكون، حتى سخطي مدد ساقيه في كرسي القطار الأخير، حتى أشعاري وبؤسي والعيون الباسمة في وجهي باتت بطعم الشمع والمتاحف، حتى النعيم والرقاد والشوق والكمد والجحيم وحتى اللون والنور والعتيم حتى الوقت والحلم وشياطين الليل الطويل، حتى سلطة الخضار وقطعة اللحم المشوي والمكدوس والفول والحنيذ، حتى الصبي النحاسي النمير، حتى هادا وعبود وسلوم وسليم، حتى أول البكاء ووسط البكاء وأخر الرعد الهزيم، حتى البقاء والفراق والأحضان حتى الوداع والموت والدماء والسلام والحنين، حتى أن تعود أمي بالوحوش إلى أعلى تلنا، حتى ترعى فيّ الحياة، وحتى يلامس قلبها قلبي وحتى يحين.








حديقة الليل الأولى، حديقة الليل الأخيرة، تماثيل الآلهة الصغيرة تستيقظ، قطط الآلهة تستجم على سور النافورة. اسمي ودود، عبدالودود، لطيف، عبداللطيف. مرقدي في أخر الليل، ولا أنام. الحارس، أحرس الحديقة من الدخلاء. الناس دخلاء. أحلم بالملائكة تحرس القطط، والقطط تحرس أطفال الآلهة الصغيرة. الليلة الصقيع كالليلة الحارة، الهواء يعبر في عروق شجر الحديقة، والشجر يظلل قلبي الكهل القديم. بعد منتصف الليل تنام عيون الآلهة الصغيرة، وتغرق قطط الآلهة في سبات، ويعم سكون الكون في وجدان الحديقة. أتمدد على عشب الليل، أنظر في السماء البعيدة المظلمة، والنجوم اللامعة الرقيقة، أرى كل الآلهة في السماء تتبسم لي. أمي آلهة الحب والنعيم، أبي إله الحرب والعيش، أخواتي آلهة الحضن والنسيان، إخوتي آلهة الضحك والمال، بنات أخواتي آلهة اللعب والتعلم، أولاد أخواتي آلهة البعد والقوة، أبناء أخواني آلهة الحزن والسؤال. جدتي إلهة كل شيء مر على الأرض وفي السماء. تحط بومة الحديقة على صدري، يتلاشى عشب الليل وكل آلهة السماء المبتسمة. تدير البومة عينيها الواسعتين في عيني. تخطو على صدري، تلامس بمنقارها منقاري، يحط دمعها على خدي، تهمس: عبدالودود، أنت حارس الآلهة، تذكر أن هذا عملك. قم لدوريتك وأحرسها إذن.











أعيش أجمل فترات حياتي، ابنتي ذهبت ليومها الأول في المدرسة هذا الاسبوع، يرسلون لي صورها مرتدية ملابس المدرسة وهي تبتسم للكميرا وترفع إصبعي السلام. أمي خرجت من المشفى وهي تتحسن، يرسلون لي صورها وهي في نزهة جبلية تبتسم للكميرا وتشرب الشاي. أنا أعمل ثلاثة أيام في الاسبوع في مصنع لحوم صغير في بلدة ريفية صغيرة. بقية الأيام أخرج للمقهى المجاور للكنيسة حيث يجتمع كبار السن والأمهات. يرحبون وبي ويقصون علي حكايات حياتهم، يا الله ما أجمل أحاديثهم وقلوبهم، أراهم فتيات في بداية الحياة مفعمات بالجمال والقوة والإيمان. ثم حين تنتهي وجبة الذكريات ينتقلن لمناوشة بعضهن، كل واحدة تسخر من شيء غبي فعلته أخرى في حياتها. روز تزوجت نجار إيرلندي كان مغرم بالصغار! ماغي تزوجت زبوناً قال إنه رجل أعمال واتضح أنه مدمن هيرون! سمانثا أجهضت مرتين توأمين فهرب منها زوجها. ودودي فتحت كل أشكال التجارة وفشلت جميعها لأنها فاشلة في الحساب والإدارة، ولكنها لازالت مصرة أنه ليس خطئها. وحين تكتمل الدائرة، نكون قد غرقنا في حالة هستيرية من الضحك قد غلبتنا دموع الضحك الحلوة. ثم يسألوني عن ابنتي، فأريهم صورها وابتسامتها، لا يقولون شيئاً أكثر من تعليقات لطيفة عذبة. في قلبي غصة، وهم يعرفون، وفي قلوبهم حب ورقة وأنا أعرف. هذا يكفي، هذا جميل! لن أطلب أكثر من هذا.











فتحت الجنة أبوابها مبكراً هذا الصباح، الأولوية لسكّان التُرب وحفظة المزارات والمذبوحين غدراً. الملائكة تشرف على ترتيب الصفوف وتفتيش الداخلين والتأكد من صحة شهادات الدخول. فقد تم اكتشاف أختام مزورة في الأيام السابقة، وتم انشاء وحدة خاصة لفحص الأختام والتأكد من سلامة الشهادات. كان قد تم حشري أنا وعبدالودود في منطقة الأعراف، نحن الذين تساوت حسناتنا وسيئاتنا تماماً، أنا لا أدري كيف تساوت تماماً، لابد أن شيء وقع من ملك ولم يضاعف شيئاً من الحسنات، فقد صمنا عرفة، وكررنا كل شيء مئة مرة وسبعون مرة. وعلى الرغم أننا طلبنا أكثر من مرة مراجعة السجلات ولكننا وجهنا بالتجاهل ووجوه الملائكة المنهكة. كان عبدالودود يعاني من ألم في أسفل ظهره، ولا يقدر على الوقوف كثيراُ، فانتقلنا بين الجموع حتى الكراسي الموضوعة في أعلى تلة الأعراف. وهناك كان المشهد مذهلاً، أمواج من البشر على مد البصر من أمامنا، ومن الخلف أمواج بلا نهاية تسوقها الملائكة بالعصيان والكرابيج إلى حفر جنهم. مضت على الأقل خمس مئة مليون عام مما تعدون حتى حل بغتة صمتٌ رهيب في الجموع، ونودي في المكبرات، أن على الملائكة ترك كل شيء والعودة حالاً إلى العرش. تفشت شائعة تقول أن العرش يتعرض لقصف شديد بطائرات الإف 16. قال عبدالودود هذه فوضى حقيقية، ما فائدة القبة الحديدية إذن؟! مضت خمسة مئة عام أخرى مما تعدون حتى أعلن عن ايقاف حالة الطوارئ والعودة لاستكمال الحساب والعقاب. علّق عبدالودود على ضعف الخدمة وهذا الإنتظار الطويل بلا حتى عصائر أو كوتشينة لتزجية الوقت، جرّه ملكٌ مخبر مندس بيننا من عنقه إلى معسكر جهنم الحمراء وهو يقول له حانقاً طفح الكيل يا عبدالودود، طفح الكيل!











دمي على الأغصان، على ريش الحمام، في قلوب الماعز على الجبال. القصة القصيرة التي أكررها بلا معنى، لا أقصد أن أكتبها، ولكني أتأمل في غرابتها كلما عدت إليها. جولة في البار، زبون جديد يلهث تحت قدمي، دوران أثير يصيب رأسي ورعشة العمر في أطرافي. الأرض مكتظة باللعنات والزهور، الإخوة الأعداء، الصيف، الأهداب، النوم، الكمد، الرعب والنقر على مكعبات جهازي، استجدي معناً للصباح والمساء. يظهر أن جيسون مغرم بي، ويظهر أنني سأطوقه وأشكره. الخوف يتسحب أواخر الليل من عظمتي ساقي، السخط الذي كان يوقظني للحياة تلاشى، وليس العدم أغنيتي ولكنه الحقيقة التي لا مهرب منها. البشر تدون ذاكرتها، متيمة بذاكرتها، مسرفة بالإعتماد على عظام جماجمهم، والخطوط العمياء على أمخاخهم. أيها الرائد، لا تبعث لنا هدايا من وراء البحار، ولا تخبرنا عن مجد الحروب والسلاح، ولا تدس في وصاياك آمال الرب والنعيم السحيق، لقد احترقنا وشبعنا من ملء بطوننا كل مرة، ننتظر متى نخرج إلى الهواء الطلق ونعلن للكون أننا عشنا ومتنا. قصيدة السقم سقيمة، وقصيدة الضجرة مضجرة، والرقة التي اتكئنا عليها ولففنا بها قلوبنا لا ندري أين اختفت! أيها الرائد، اسمح لي أن أمسح دمي من على الأغصان، فلم يستحق هذا كل هذا.







يومٌ حار، ووجه سيفي يحيط بي، أصابعها تلمس حواجبي ووجهي، تسألني لا تشرب القهوة؟ لا أشرب القهوة، أشرب الكحول والشاي. رموشك عجيبة؟ عجيبة! أقصد جميلة وطويلة. أووه شكراً سيفي! لا تمس الجزء الأعلى من حاجبيك، دعه ينمو قليلاً، فقط اتبع الخطة التي وضعتها لك. لا لم أقترب منهما، هي لا تنمو! وجه سيفي جميل وفاتن ورقيق، ليس وجهها فقط، أنا أرى روحها في وجهها وعينيها، قوية سيفي، كان يجب أن تعمل كساحرة. أنا أحب سيفي، وأنا لا أتحدث لأن الذين أحبهم أريد أن أبقى معجبة بهم. كالشمس، من بعد، لا تمس الشمس، ستحرقك الشمس. وتدخن؟ لا توقفت. وأنتِ؟ توقفت ثم عدت. ماذا تفعل في الحياة بدون سجائر؟! فعلاً، الحياة بدون سجائر لا تحمل معناً. أعجبها رأيي عن الحياة والسجائر والمعنى. وماذا تعمل؟ يفترض أني أكتب، ولكني أجلد ظهور الرجال وأتبول عليهم. يدفعون؟ يدفعون كثيراً. محظوظ! أنا ملولة، أكثر من الملل نفسه. سيفي تمثل مشيتها، وحركة يديها، تتكلم هامسة، تفضل أن تتحرك الأشياء بهدوء ووضوح ورقة، سيفي تريد أن تبقى راقية، أقرب للجمال وتناغم الأشياء غير المتناغمة في الحياة. ربما لو اقتربت خطوة لشعرت أن هذا الرقي ثقيل جداً وهي مزيفة فوق ما تحتمله حياة أحدهم من الزيف. ومتى ستعودين؟ لا أعرف، أنا دوماً في رحلة! الآن أريد أدخن سيجارة يا سيفي، رغم أني لا أريد أن أدخن سيجارة يا سيفي.








يمشي الصبي في ثياب أبيه، يرفرف بين الأدراج، وينتعل حذاء أمه. يضحك الزوار ويرقص أكثر. في الصباح يسمع صوت القرآن من ميكرفون المدرسة، يخرج عبدالودود إلى حوش البيت، يطارد النمل، يحفر حفرة، يقلّب التراب بالماء، يتسلل إلى المنحدر القريب، يجمع الحجارة في حثله، يبني بيت حجري في زاوية الحوش. يتسمني عبدالودود قبل أن يبلغ، يراقب الغنم والبقر في حظيرة جده تتراكب. يستمني أكثر في المراهقة على أطياف وصور من الأولاد في المدرسة وصور البنات في المجلات. ينام عبدالودود ثم يستيقظ ويلقي بكتبه في برميل النار، يخرج إلى الصحراء، يُنسى في المدينة، يضيع ويجد نفسه ويضيع. يتسلق الجبل، يحلم بشاعرة، بإمراة تسقي الريحان عند أعلى الجبل في الضباب البارد. يشد إلى قلبه كتاب، يكتب كتاب، ينبطح على الأرض وينكحها في دبرها. يثور الله وتثور الملائكة وتتلظى جهنم. يرفع عبدالودود حجراً في الوادي، ينام متكوماً آمناً مرعوباً تحته. يستعير قِدراً ويسلق بيضة. يجاور أمه ويأتي يسليها كل مساء. يمد الله له يداً في غرفته العلوية، لكن عبدالودود يتجاهل اليد والحبال والصلوات، يتكوم من الخوف، في أخر الغرفة، يهمس لنفسه: بطل يا عبدالودود، بطل!




وصلت شحنة جديدة من المعاطف الثقيلة، المدينة تستعد لشتاء هذا العام في خوف وترقب. تقول التوقعات أن البرد سيكون ثقيلاً وسينهش العظام. امتلأ المخزن بصناديق المعاطف القادمة من الصين واندونيسيا، واستبدلنا كل أرفف ومساحات الملابس الأخرى في المتجر بالمعاطف. عمي عبدالودود منتش من البيع والمال الذي يدخل الخزنة بهذه الوفرة. استأجر المتجر المجاور وكدسه بالمعاطف وعلى وجهه ابتسامة ظفر مريبة، وكأنه كان ينتظر فرصة العمر! عمي عبدالودود رجل قذر محتال، فحين زاد الطلب راح يضاعف الأسعار أربعة وخمسة أضعاف. طلب مني أن أتولى المتجر الجديد، ولكنه لم يكن يثق بي، فكان يزورني مرتين أو ثلاث كل نهار. في الأيام الأخيرة اضطررنا للاستعانة بعمّال أخرين، وبات المتجرين يعملان طوال اليوم والليل بلا توقف. أتذكر كل هذا كحلم ليلة البارحة، فقبل أن يهز الزلازل المدينة التي تستعد لشتاء قارس، كان الناس متذمرين ولكنهم كانوا طبيعيون. اليوم المدينة منكوبة، الناس تموت في الشوارع من التشرد والبرد القاتل. لم نعرف أين أختفى، هل هو تحت ركام المتاجر المتهدمة، أو قضى في بيته الذي وقع بكامله، أو أنه نجى ووجد مخبأ يحتمي فيه. عمي عبدالودود رجل قذر ومحتال ويستغل الفرص ويود لو يمتلك أموال الأرض والسماوات كلها.









الصالح عبدالملك الوجدان ابتاع في خريف عمره مزرعة، نشب في طرف الحوش سياجاً وقفصاً للدجاج، وبنى فوق الغرفة غية حمام، ومع رياح الخريف نثر حبوب الكوسة والدباء والباذنجان. راقبته لستة أشهر، يقف أمام باب المزرعة كل صباح ينظر في الشمس ويصد بظهره العاري الصلب أنوارها الذهبية. في الشتاء طرقت بابه وجاء يمشي ينظر في وجهي ويبتسم، قبّل رأسي ويدي وشفتي، وقال اشتقنا لك يا عبدالودود، والله اشتقنا! جلسنا أمام المزرعة ندخن سجائرنا ونشرب الشاي ونراقب المارة والدواب والحشرات الميتة يدفعها هواء الشتاء البارد. وكيف خطرت على بالك مزرعة؟ قال: كنت في الحمام وخطرت ببالي! عبر هواء محملٌ ببرودة لاسعة، فدخلنا نحتمي في الغرفة ندفي جلودنا البالية وعظامنا المنهكة. قال: مر وقت طويل منذ جئنا، لم تعد لدي حيلة مع الوقت! إن وقفت أنهكتني رؤية الأشياء وإن نمت لساعة أو ساعتين في الليل رأيت أمي. في الصيف التالي انتحر الصالح عبدالملك الوجدان. علّق رقبته بحبل ودلى جسده حتى اختنق. كان يقول نحن لا نموت يا عبدالودود، نحن ننام.



لم يحل الشتاء بعد، لكن البرد يفت عظامي. الأسوار كالأسورة تلف حول عنقي ليل شبحي طويل. أبو الورد يستيقظ سبع مرات في الليلة على الأقل ليتبول في صفيحة السطح المركونة في أخره. استيقظ معه كل مرة، اتسمع لخطواته ثم ارتجافه وصوت بوله يقع على مستنقع البول البارد الكامن هناك. يمشي عائداً وهو يلعن البرد ورب البرد والأرض ومن على الأرض ثم يستثني ابنه عبدالودود. على القهوة سألته: وأين أراضيه؟ قال حي، في أرض الله حي! مضت عشر سنوات يا أبو الورد! قال عشرة زايد عشرة زايد عشرين، العمر يوم والا يومين، حي! عند أخر الصباح يعود يحمل صفيحة البول ويرشها في حوض الباميا والنعناع. في الظهيرة يحتل مقعده في السطح بعوده. يدندن ويغني وينشج ويفرح ويضحك. يصيح عليّ: سمعتها؟ جميلة يا أبو الورد. ما تكرر. لا وحدة وحيدة بدون زي، حي! في الليل نأكل بقايا ما بقي من الفطور أو الغداء، أو نعض على ألسنتنا وننام. يقف في وجه البرد الذي لم يأتي بعد وهو يرتجف، يبول جولته الأولى، يعود يجرجر قدميه. يتمدد، تخبو أنفاسه ويذهب في نومة حتى موعد بولته التالية. فيقوم.





انقضت صلاة الجمعة، وتحلق المصلين في الساحة العامة يهرجون وينتظرون حفلة الإعدام. الظهيرة على أقدامها والقلوب قد أصابها خشوع وفزع خفي. أفسح الجمع الطريق لمركبات الشرطة والإسعاف. أخرجوا ابن عمتي عبدالودود، رأيت وجه من بعيد، لحية سوداء طويلة، شعر أسود طويل، عيناه معصوبة، ورجلي أمن يحملانه من ذراعيه. أجلسوه على الأرض، قرأ العسكري البيان، مضت لحظات معطوبة غير مفهومة، لمع سيف الجلاد في صفحة الظهيرة البائسة، تدحرج رأس عبدالودود على الإسفلت، وعلت نافورة دم من عنقه المذبوح، ثم وقع على جنبه. فجأة انتبهت إلى هرج الناس وانصرافهم. استلمناه قبيل صلاة العصر بقليل، تجمع أهل القرية بعد صلاة العصر ودفناه في مجنة العائلة. في الليل لم استطع النوم، لازال نواح عمتي المكتوم يكرّ في أذني، خرجت إلى المقبرة، جلست عند قبره الرطب. أحزان أيها الدنيا وأفراح، نجيء بالدفع ونذهب بالقطع! تحركت التربة، وخرج رأس عبدالودود، نظر في عيني وقال: حولك أحد؟ مافي أحد أطلع. حملت رأسه ووضعته في الشوال ورحت أتسلل من المقبرة باتجاه بيت عمتي. حملت رأسه بين يديها ووجها فرح وضحكتها مغمورة بالدموع الطويلة، ظننتك مت يا عبدالودود، والله ظننتك مت يا ولدي!






أنا لست كاتب السيرة، واليوم سأقول لأزيح كل هذه الشكوك، نعم أنا مدلس! لم يوجد أبداً رجل اسمه عبدالودود محمود العتال. اسمعوني رجاءً، ليس الأمر بهذه الكيفية التي تريدون أن تروني عليها، هناك تفاصيل مهمة يجب أن تسمعوها قبل أن تحكموا عليّ، وأنا لا أمانع أن تقولوا أني مدلس. عبدالودود العتال اسم جئت به لأحكي ما حدث بالفعل في مطلع القرن، قبل أن تحتال بلدتنا الصغيرة التافهة إلى هذه المدينة الوحشية. سأقدم في نهاية مرافعتي الإختيارية هذه عناوين كل المصادر التي استقيت منها سيرة عبدالودود العتال. معظم المصادر تشير إليه باسم محمود الشق، ويعود الشق على أثر جرح عمودي من أعلى جبينه إلى أسفل ذقنه. وقصة قطعه الطريق ما بين بلدتنا آنذاك وبلدة بومندر كانت تتناقلها جداتنا حتى وقت قريب، ألم تسمعوا بالشق يا جماعة! وقصة أنه وعد بالنبوة ثم لما قارب الأربعين سُحبت أوراق اعتماده لأسباب سماوية غير محددة، مذكورة بالأدلة والبراهين في المصادر. وما حدث بعد ذلك أنه غضب لعشر سنوات فحفر بيته في جبل الناقور واعتزل فيه ولم يخرج حتى انقضت العشر تذكرها المصادر لأسباب مختلفة، والبيت المحفور في الجبل لازال شاهداً كما تعلمون. المشكلة حدثت وأنا أعيد كتابة السيرة، وقع أن اختلط الحابل بالبابل، فكان يصيبني ما يشبه الغمامة أرى وأسمع فيها الشق كما أني أراكم أمامي الآن. وكان يبارك كثيراً مما كتبت، يصحح ويضيف ويحكي قصصاً أخرى. ولولا أنه استحلفني بأغلظ الأيمان أن أختم سيرته بالقول أني الوريث الأوحد الحي له ما وضعت نفسي في هذا الموضع المحرج. أيها النور المشكوك في الفوانيس وأيتها النار القارسة في الكهوف السود، ويلٌ لي وويلٌ لكم من طيورٍ كالنفور، وسحيق كالمحيق، وشق وشقان وشقشقة. هذه نسخة من كل المصادر لمن أراد مزيداً من الإطلاع في الوصف، وفعّل زر الجرس رجاءً. 









حدث عطل ما يوم أمس في المكيفات، وانخفضت درجة الحرارة تحت الصفر، كدنا نتجمد في الغرف والساحات. صدر صباح اليوم إعتذار في صحيفة الجنة الرسمية، يلقي باللوم على إمدادت الغاز، ويعد بعدم تكرار ما حدث. تم تعويض المتضررين من كبار السن والمرضى بمنحهم إجازة ليوم مدفوعة الأجر في أي من منتجعات الجنة. في الظهيرة خرجت إلى قهوة الجنة العامة في أعلى الحارة ، بعدما سمعت لغطاً وهتافات وكأن هناك مظاهرة، كان عمي عبدالودود يقف على إحدى الطاولات مشمراً عن ساعديه، قد احمر وجهه كبطن البطيخ وقد حف به أهالي الحارة يهتفون ويشجعون ويأمنون على خطابه الثوري الحار. قال عمي عبدالودود: لقد نخر الفساد كل الأجهزة، لم نعد نتمنى الفراخ المشوية ولا مالا أذن رأت ولا عين سمعت ولا خطر على قلب بشر! ابتلع جولة من اللعاب فصاح أحد الهاتفين: أخطأ من شدة الغضب! فأمن الجمع: أخطأ من شدة الغضب! قبل أن تحل صلاة العصر جاءت الشرطة، واقتادت عمي عبدالودود وقلة من المتحلقين حوله إلى مركز الجنة الأعلى. في العاشرة مساءً ذهبت لأكفله، ركب في المقعد بجانبي وعدت به، كان القمر بدراً يضيء ويزهر، والجنيات و الملائكة يحلقون بين النجوم والسحب. أخذ نفساً عميقاً وقال: الثورة قادمة، وستصل إلى الرأس الأعلى! قلت يا عم أنت في الخمسين، تمتع بالسنين الباقية ودعك من هذا العته! قال: هذا رأيك النهائي يا سَمْيّ؟ قلت نعم، قال: أظن أنه رأي سديد يستحق النظر والتفكير.






عند المساء وبعد أن غابت الشمس وسكنت الأرواح في بيوتها، جاء الشيخ عبدالودود يتقدمه خادمه محسن الأخضر. استقبلته أمي عند باب بيتنا بالبخور والريحان، تقدمه محسن ودخلا الصالة الوحيدة. جلس الشيخ ينظر في الأرض ويداعب سبحته الخضراء، يذكر الله ويسأل عن الأحوال! قمت بصحن الفاكهة إليه فقال محسن الشيخ لا يأكل بعد صلاة المغرب. قرّبت إليه طاولة صغيرة فأخرج محسن المندل من بقشته، وطلب أن نطفأ نور الصالة ونشعل شمعة. قامت أمي وقالت ليس لدينا شمع يا مولانا، هل الفانوس يفي بالغرض؟ فأومأ الشيخ عبدالودود برأسه نعم. خرجت أمي، وما إن خرجت حتى رفع الشيخ رأسه وأخذ يتفرسني بعينيه، ثم قال أنت جميل جداً يا حسان، جميلٌ جداً، سبحان من سواك، أنت أجمل من كل ما رأته عيني في هذه الحياة. خطى محسن الأخضر خطواته السريعة، أوقفني من يديّ، شد قماشة حول فمي، ولف حبلاً حول يدي وأحكم قيدي، ثم قام الشيخ عبدالودود وألقى شوالاً فوق رأسي، فلم أعد أرى شيئاً. حملني محسن الخادم، وخرجا بي. مشيا طويلاً، وكنت أسمع الشيخ عبدالودود يذكر الله، ويكرر سبحان من أبدع جمالك يا حسان، أنت أجمل من كل ما رأته عيني في هذه الحياة.






أربعة أيام وأنا أنطح في التل، تجمعت الغربان تتفرج وتصفق حتى منتصف الظهيرة ثم طارت بعد أن نقرها الجوع. جاء خالي وحبيبي عبدالودود عند الغروب بحافظة الطعام وقارورة الماء كعادته. تفحص الحفرة ثم قال أظن أنك في الإتجاه الصحيح! انزلقت قدمه فسقط أمامي وأنا منكفأٌ أحشو فمي بالبطاطس والفاصوليا، تهلهل التراب بمهل على باب الحفرة الممتدة 50 قدماً على الأقل في جوف التل، ثم تساقط واشتد كالمطر حتى تبعته صخرة كبيرة فوقعت أمامي وسدت باب الكهف، في ذهول وشخوص أفقداني حتى مضغ البطاطس والفاصوليا. تابعت وجبتي، فالجوع كان ينقر بطني منذ الظهيرة. ثم قمت وألصقت أذني بسطح الصخرة فسمعت نداءً مدفوناً عميقاً كدبيب الجغلوط على سطح القمر. صحت من جانب الصخرة، اسمعني يا خال لا تجزع، سأجلب في الغد باكراً فأساً ومطرقة، ولن أبارح المكان حتى أخرجك، ستكون الليلة دافئة عندك، تصبح على خير! مضى أسبوعان وأنا أنطح في الصخرة، تجيء الغربان في أول الظهيرة، تتفرج وتتضاحك وتغرد بأنغام عذبة ثم تتركني لوحدي أمام هذا اليأس وهذه الحيرة.







جرجرت أبي من خصيتيه، أخذته حتى بنت الحي، شجرة الحي أو عجوزتنا. شددته أنا وعبدالودود بحبل من أشجار الغلف، علقناه وهو يأن ويصيح. أيامها كان عبدالودود منشغل ببثرة سوداء نبتت في أعلى خده الأيسر، ولما ذهبت معه إلى جدتي داحشة قالت لا تحكها يا عبدالودود، غرّقها زيت زيتون وحكها بقشرة بصلة. في الصباح على صياح أبي استيقظت كل القرية، كان قد تشبث بجذع عجوزتنا حتى يخفف الألم عن فخذيه وخصيتيه. سمعت القرية صياحه ولكنها صمتت، كان عبدالودود شيطاناً يحرث بقرنيه الشيطانتين كل مكان، أنا كنت أمشي خلفه كقطة جائعة. حشى عبدالودود فم أبي بغصون الشوك وحبوب الجنا. في الظهيرة خف الأنين، ونزل وشلٌ طفيف، وحينها رأيت ساقي أبي مشعرتين بيضاوين ووجهه أخضرٌ مكتظٌ ومزحوم كأنه يريد أن يتقيأ. قال عبدالودود أبوك مات! قلت أنت الذي جعلتني أجرجره في هذه الرمضاء حتى مات، ماذا سأقول لأمي وأخوتي الآن؟ قال قل لهم لدغته حيّة. عدت إلى بيتنا، وقلت لأمي مات أبي، لدغته حيّة. حزن الناس وحزنت أمي وأخوتي، دفناه وانفضت الجموع، وعبدالودود واقفٌ يحك بثرته لعنه الله اليوم وكل يوم.






صباح الخير يا جاري، أشرقت الأنوار! وزادت الدنيا في بهائها. في الربيع تطل علينا الزهور وفي الشتاء أفتش عن بلدة في عراء الولاية، أسافر إليها، أستطلع بيوتها والناس فيها. الشهر الثاني من الشتاء أصعد درجة في سفح الولاية، بلدة جديدة، صباحات متجمدة، والناس تدفع فراخها إلى المدارس. الشهر الثالث أرتفع إلى زمهرير الجنة، في صندوق السيارة جثة عبدالودود وزهور الشتاء التي قفطها في أول أيامه. صفيت الجثة من الدم وطويتها من الوسط تماماً كما جاء في وصيته ثم وضعتها في الصندوق. أوقفت سيارتي عند باب الجنة، هدوء عام والحراس يحتمون من هذا الصقيع اللعين في كشك الحراسة. بعد أن دققوا في الأوراق، حملوا جثة جاري ووضعوها باحترام وإجلال كبيرين في كيان زجاجي عند باب الجنة، قالوا سيدخل في الغد بعد أن يتم إنعاشه وإحياءه وبرمجته لحياته الجديدة. قلت فقط سؤال أخير قبل أن أعود، هل صحيح ما سمعناه أن الجنة ستصبح نباتية فقط؟ رد عليّ رئيسهم هذا صحيح: كل اللحوم ومشتقاتها ممنوعة منذ مطلع العام. صباح الخير يا عبدالودود، أيها الجار الطيب سليم القلب، سعيد أنا لك أنك من أهل الجنة، نلتقي في الشتاء القادم. عدت في طريقي، أحيي البلدات، وأتأمل الناس يدفعون فراخهم إلى غرف المدارس الدافئة.






وماذا أخبروك أيضاً؟ هل جاؤوا على ذِكر البقر الذي شح في الوادي، والطيور التي ينزف من صدورها دمٌ أزرق؟ إذن باعوا السفح أولاً لملاعين الفحم، ثم أجروا الوادي لمنقبي الذهب وشركات القمامة، 75 عاماً يا عبدالودود! هل أخبروك أن المقبرة كانت ضمن الصفقة، وحتى مرقد مولاي محمد الراضي هُدم وسُوي بالأرض على مرأى من أعين أهل الوادي وقبل حتى أن يخلو الوادي ويهدوا البيوت! لا أظن أن..، الملاعين استغلوا فرصتهم اللعينة حين خرجت من الوادي باتجاه بيت الله، ألبي النداء وأجدد الولاء، ولولا أنه عز في عليائه قال أمكث هنا يا حبيبي حتى أأذن لك، ما لبثت هذه العشر سنين في بيته أسبحه ليل نهار. هل هو يعقد من هنا يا عبدالودود وهؤلاء الملاعين يحلون من هنا! ولم لم ترسل إلى مرسالاً أو تأتي لتخبرني بما يحدث! لاحول ولاقوة إلا بالله، أنا لم أعد للدنيا يا عبدالودود، لكني عدت إلى المراقد والسكان النائمين، مين يحث هذه الزبالة المكومة على أجسادهم الطاهرة! من يحرسهم ويؤنس وحشتهم الآن! هل تعرف أن أمك وأمي وأباك وأبي وجدينا وجدتينا كلهم تحت جبال القذارة هذه. أستغفر الله يا عبدالودود، وحسبي الله ونعم الوكيل.







أجواء القرية جافة، جاء الجراد ثم اختفى، غمامة وحيدة تحجب الشمس عنا. قرر جدي الثري أخيراً أن يحل خزانته ويبعث في المكان شيئاً من التسلية، لا ندري ما الذي وقع له! جلس عمي عبدالودود إلى جانبه وشجعه قال سأتكفل بكل الأمور الإدارية من الألف إلى الياء. رأيت جدي يجيء قبل الظهيرة يقف ويسند ظهره بكلتا يديه يمد صلبه، كأنه مسلة قديمة منصوبة في قلب حارتنا. الإنشاءات على قدم وساق وعمي عبدالودود يدور كالنحلة أو كالدجاجة حتى تم تجهيز المكان قبل العيد بعدة أيام. تسكعت في الظهيرة بعد أن عدت من المدرسة بين الألعاب، أتأمل العمال وهم يضعون اللمسات الأخيرة ويجربونها. جاء العيد ولعبنا نحن الصغار حتى تكومت بحيرة عرق في وسط مدينة الألعاب. لعبنا حتى مللنا وحرقتنا الشمس. في اليوم التالي جاء أهالي الحارات المجاورة. ألعاب بالمجان، كل شيء ببلاش! رأيت وجوهً جديدة وسيارات جديدة، فرحة في المكان والأجواء تشبه ما أراده جدي مفرحة ومثمرة. لا يوجد أي حزن في الحكاية، صحيح مات جدي ثم تبعه عمي عبدالودود وتهدمت مدينة الملاهي الصغيرة في حارتنا ولم يعد منها سوى آثار وقطع من مركبات السيارات الصغيرة في مستودع المسجد القديم، لكن الموت أو نهاية الأشياء هو طبيعة الأشياء. أردت فقط أن أقول أني لم أحب جدي كثيراً لأنه كان يصرخ طوال الوقت بلا معنى، قال لي عمي عبدالودود لاحقاً أنه كان يصرخ من الألم، أنا لا أعتقد أن شيخاً كبيراً غنياً محترماً يمكن أن يصرخ من الألم أو أعتقد أنه كان عليه أن يحتمل الألم ولا يصرخ. بعدها مات عمي عبدالودود وأنا لم أكن أحبه أيضاً فقد كان يجمعنا نحن الأطفال ويقرأ علينا الأحاديث والقرآن والأشعار ويثرثر عنها من بعد صلاة العصر حتى غروب الشمس، وكان ينظر في أعيننا وكأنه كان يجب علينا أن نفهم كلامها الغامض والغريب، قليلاً ما كنت أسبق الشمس قبل أن تغرب وأتاملها تختفي خلف الجبل الكبير. صدمته سيارة وهو يقطع الشارع العام أمام المسجد.









عند الجسر الذي يضيق، وحين يمشي الناس على أقدامهم، رافعين رؤوسهم إلى السماء، فاغرين أفواههم علهم يلتقطون خراء النوارس النازل. هناك قبل أن يحل الليل وتنام القلوب في صدروها، نابضة جاهلة غبية وغائبة، هناك ما بعد الجسر حيث تمتد مساحة من مزيج الشجن الفرِح والعزلة الكبيرة يقف رجل أو امرأة أو قطة تؤمن أنها لا تنتمي ولا لا تنتمي لأي شيء. عبدالودود: أفضل القطط على الكلاب! القطة: مختل، مسكين، أنت مكرر! عبدالودود: طبعاً، كلنا مكررون، هه، غبية! القطة: وماذا جاء بك إلى الجسر ليلاً؟ عبدالودود: مرهق من الجوع. القطة: النوارس لا تطير ليلاً. عبدالودود: أفتش عن خراءات النهار على الرصيف. القطة: هل حالفك الحظ؟ عبدالودود: ليس من شأنك، اهتم بأمورك. مضت لحظة صمت، دار فيها عبدالودود دورة خلف القطة يعاين أعضائها. عبدالودود: عفواً مدام ظننت أنك رجلاً. القطة: لا ضير، يحدث هذا في أحسن العائلات. لمعت نظرة قذرة في عيني عبدالودود، لمحت القطة تلك القذارة وخراءات النهار في نظرة عبدالودود تلك. القطة: أحذر أن تفكر حتى! عبدالودود: ولماذا؟ الجسر خال من الناس. القطة: لكنه ليس خالٍ من القطط، زوجي يغفو عند أول الناصية. ثم استدركت: ألم تكن مرهق من الجوع! عبدالودود بنغمة فحولية: طار الجوع بعد أن رأيت ما رأيت! كررت القطة وهي تمشي مغادرة المكان: أحذر أن تفكر حتى، ستفقده! بينما انتظرها عبدالودود تعبر من أمامه ثم تبعها من مسافة آمنة يتفرج، يحك نفسه، ويفتح فمه للسماء فقد يصادف نورس ليلي عابر.










جاءت سمية بإناء فيه ماء، وقالت أغسل وجهك من غبار الطريق. قلت وأنا أنظر في وجهها، لقد حرقوا كل المزارع، لماذا؟ قالت أنتهى الموسم يا عبدالودود! جلست على الأرض وربّعت رجليها وقالت بنغمة ساخرة: أنستك المدينة مواسم الزرع والمطر والشمس. حملت ماءً في راحتي يديّ وغسلت وجهي، رائحة الإناء زكية، لا أدري الإناء أو الماء! قلت أنستني المدينة ما هو طعم الحياة أصلاً. قالت: وماذا تأكلون هناك؟ الشوارع، الإسفلت؟ وراحت تضحك، رحت أجاري روحها المرحة، قلت: أسفلت نيء يا سمية، حامض، نتجرعه في الصباح وفي المساء، ثم يخزنوننا في البنايات كالعبيد، نعمل كالعبيد ونطيع كالعبيد، ونتسلم الرواتب كالعبيد ونصرفه كالعبيد وتمضي الحياة ونحن على الإسفلت النيء وبين ماكينات الصرافات. نظرت إليها وكانت تغفو وهي جالسة وظهرها مستقيم كصفيحة، عجيبة سمية! لم تتزوج وبقيت مع أمي ترعاها حتى ماتت، وحين رحلت قبل خمسة أو ستة سنوات كانت سمية قد شارفت الخامسة والأربعين، فألقت بفكرة الزواج خلف ظهرها، ومددت قدميها في البيت، تناور حياة هادئة بسيطة. في ظني أنها لم ترد الزواج يوماً، وأنها استمتعت بهذه الحرية الخالصة التي يدور فيها يومها. أفكارها حرة، ويومها طويل، والكسل لذيذ.










في المساحة الخالية المتروكة في أخر الحديقة وجدته يقف يتأمل حائط المنزل الأخير، سألته ما الجديد يا عبد الودود؟ قال لقد تكثف كل شيء في ضوء قبل أن ينتهي الأفق. قلت وهل ينتهي الأفق يا عبد الودود؟ دفع عربته حتى ألصقها بالحائط، وأنزل من عليها أكياسه وبطانيته وأسراره. قلت هل أنت حر يا عبد الودود؟ قال كنت طفلاً يوماً. والوقت؟ قال الأحزان تطوف على الأرض كل ليلة لتختار أهلها. ولماذا فضلت العربة؟ قال الحرية أمر مستحيل، بالعربة وبدونها. تحرك قليلاً في الفسحة الفاصلة ثم عاد لي على مهل وقال: كنت أحلم في شبابي أن أكون متشرداً، كان التجول يشغلني في البداية.. ظننت أن التجول واللامكان ومعاندة فضول النظر في الوجوه يجعلني حراً، لكني حصرت قلبي في جوهرة زجاجية رخيصة. اليوم وأنا في الأربعين آمنت أنه هو التشرد، لكن الحرية مستحيلة، فنحن مقيدون إلى أنفسنا بسلاسل ثقيلة أبدية وعصية على الزمن وكل طرق الهروب. المتشرد حر، أنا حر يا محمود، حر بدرجة كبيرة، ليس ليومي بداية ونهاية، ليس لدي مواعيد لأتحضر لها أو مهام أعمل عليها طوال الليل لأنجزها، أنا حر من الوقت والمكان والاتجاهات. صدقني يا محمود لا توجد هناك اختلافات كبيرة بيني وبين شاب يملك شركة بالملايين، كلانا مقيد إلى حزن قديم، حزن المجيء. تقصد الحرية في الموت أو في شيء يسبقه؟ هذه ليست حرية يا عبد الودود، الحرية ليست كاملة، هي حركة ما. أسند رأسه على أكياسه التي وضعها في زاوية المساحة الخالية المتروكة، أخذ نفساً كبيراً وكأنه تنفس الدنيا كلها، ثم أدار وجهه لي ونظر في عينيّ، وعلت وجهه ابتسامة كبيرة وكأن هذه الدنيا قد خلت من كل أوجاعها. قال أتركني يا محمود، إذا جئت إلى هذه الحياة مرة أخرى كحمامة، سأكون حراً تماماً. هل ترى الطيور تحلق؟ هذه الحرية المستحيلة، لا أوراق تثبت ملكية دولة أو عصابة لك، ولا تعرف هل أنت في عالم متخلف أو عالم متحضر، أتركني يا محمود، فأنت أحد هذه القيود، وإذا رأيتني مرة أخرى في مكان ما أدفع عربتي ورأسي لا تهرع إليّ كالمخبول تسألني عن شيء ما وكأنك ستتحصل على شيء ما له معنى. شكراً للسؤال، ولكن في المرة القادمة سألعن اللي خلفك.













في طريق العودة التقيت صدقة بالأستاذ دواود الداود، يمشي بمحاذاة الشارع ومن خلفه ابنيه زاهي وواهي. رفعت رأسي وابتسمت له محيياً، لكن عينيه كانت في بعد أخر. في الليل نقلت لي زوجتي الخبر، فقد تأكد إصابة زوجته بالسرطان، وهي في مرحلة متقدمة منه، يعني أن الموت قريب. قلت يا مريم، كلنا سنموت. قالت لكن لا نريد أن نعرف شيئاً عنه. تمددت على جنبي ورحت في حلم طويل عجيب. فقد وجدتني صحبة الأستاذ داود أقود به سيارته في طريق طويل، وهو مسترخ على المقعد بجانبي، منشرح الوجه، والهواء يحرك شعر لحيته. امتدت الرحلة لثلاثة أيام، حكى لي فيها حياته منذ ولادته حتى اللحظة التي يجلس فيها معي. لم ننم سوى ساعات قليلة جداً، وهو لم يتوقف عن الحديث للحظة، واصفاً كل شيء بدقة وحضور وعاطفة، وكأنه قد كرره في نفسه مرات كثيرة. لقد فاجأني فعلاً، كم تخفي هذه الوجوه قصصاً وقلوباً متعبة. قبل أن تنتهي الرحلة، قلت له: ولكن زوجتك التي ستموت! قال لا ضير، أنا فقط أردت أن أحكي ما في صدري، ما احتفظت به طوال عمري.










في أعماق عبدالودود توجد حسنة، والحسنة ليست فعلاً متعالياً على الوجود، ولكنه يشعر أنه يتقدم بها على أفعال الحياة من حوله. قد تكون الأساطير محل إعجاب البشر، لكن عبدالودود يفضل النظر، النظر الصافي والفارغ. إذا كانت هذه شجرة بحرية مالحة تطل على الشاطئ، فهو يحب أن يرى خضارها المعلق وشحوبها الميت على الأرض. قد يرق عبدالودود حين لا يفكر لا في الشجرة ولا أوراقها ولا في البحر الذي لم يتوقف هديره منذ الأزل. لم أجد عند عبدالودود وحشة الزمن القديم، فهو لا يمتثل الكلام، ولا الحكم، هو بالذات لا يحب ثقة الشاعر وهو يتخلى حين يقول " زاهداً فيما سيأتي، ناسياً ما قد مضى" وهو لا يحب ثقة الفيلسوف حين يلخص قوته " أنا لا أخاف شيئاً ولا آمل شيئاً، أنا حر" يظن صديقي أن هذه تورية مشبعة بالرعب من العالم، ولذا فهو يحط قلبه في الأعشاش بأقل ما يحط الحمام بيضه، على فضاء كبير بلا معاني.




التتمة... Résuméabuiyad

المسألة النملية*


...









وقف رئيس النمل الأحمر جلال في جموعه وقال : لقد أعلنا الحرب!. فتعالت صرخات الجماهير المعبأة وهتفت باسمه. داخل الجموع قالت النملة ربى لبعلها حسن: هل فعلا ستقوم الحرب والا مجرد تهويش ولقافة كالعادة. السيد حسن رجل حكيم وقضى عمره في بناء العرازيل. قال لها: كالعادة، لقافة من بعيد!.


تم نصب الآلة الضخمة " الخازوقة" وسط المستعمرة. وهي عبارة عن كرة بيضاوية من الحديد النحاسي، بمدخلين ومرآة تقسم الكرة إلى نصفين، يقف النمول أو النمولة على طرف ويعبر عن رأيه بصوت عال يتردد خلال الكرة وينقل صداه عبر مخارج صوتية لتصل إلى مركز المستعمرة، ثم لتتداول في انحاء المستعمرة البعيدة وعلى أطرافها. علق الاستاذ نبيل، المتقاعد من مهنة التعليم، حين سمع بحكاية الالة قائلا: على قدر الناس تأتي خوازيقهم.


أنا جميل عاتب، مؤيد للحركة النملية الإصلاحية الأهلية، لكن هناك عدو. نعم، إني ادعو للحريات واخراج النمل المصلح المكبل في السجون، ولكن هناك عدو!!. يجب دفع العدو، وايقاف تحرشاته. أنا مع روحي النملية الحمراء، وتعرفون أن لكل حرب خسائر جانبية.. وهذا لا يُحسب عند المكاسب الكبرى والنهائية. المستعمرة خط أحمر. كلنا مع الريس جلال، رغم اختلافاتنا معه في قضايا الحريات.


في قرية بعيدة على حدود المستعمرة النملية الحمراء، وبعد صلاة الجمعة، قرأ شيخ القرية خضير، فرمان رئيس النمل جلال؛ بسم الله، بدأنا الحرب على عدونا المجرم في المستعمرة النملية البيضاء المجاورة، سنوقف البث التلفازي والاذاعي، على المواطنين التبرع بأجهزتهم النقالة لنعيد تصنيع اليورانيوم في مفاعلنا النووي المعطل أعلى التلة. مع تحياتي وأشواقي الرئيس جلال.


أنا محسن بهلول، فليسوف متخفي وأحب التاريخ. اكتب الآن تاريخ أمتنا النملية في خفاء. لقد أمر الرئيس جلال بجلد وصلب النمول رأفت حسون، حين أقدم المسكين على شراء لوحات مقلدة للفنان النملي العالمي مونيه من سوق سوداء. وقام بعرضها للبيع، في شوارع المستعمرة العامة مدعيا أنها اللوحات الأصلية.


السيدة نوال غاضبة من مسألة توقف بث التلفزيون. قررت أن تخرج إلى جارتها أم معاذ، لتثرثر معها قليلا. لكن زوجها السيد رامي منعها من الخروج من البيت أو زيارة أي احد. وقال لها: نحن في أزمة كبيرة. لدي معلومات أن الريس جلال قد يستدعي النمل الشباب للتعبئة العامة قريبا.


شن الطيران النملي الأحمر غارات على مناطق المتمردين داخل المستعمرة النملية البيضاء. وتنقل المصادر المحايدة أنباءً، بأن الطيران النملي الأحمر دمر قواعداً لاطلاق الصواريخ، دون سقوط ضحايا!


خرج علينا السيد جمعان أسد المقرب من الريس جلال عبر برنامج المشهد، يؤكد أهمية العملية النملية في اعادة التوازن الطبيعي بين قوى المنطقة. وقال إن العملية لن تتوقف حتى يتم اعادة الامور الى نصابها. وعلى المعارضين أو ما اسماهم بالمخنثين الخونة، داخل الأرض النملية الحمراء أن يخرسوا إلى الأبد.


الكاتب الروائي الجنوبي نافع دوعني، كاتب الرواية الوحيدة الجذام، قاد مظاهرة متوسطة في شوارع المستعمرة الحمراء ترفع لافتات وشعارات تنتصر للعملية النملية. وفي عودته إلى بيته فوجئ بحريق كبير يلتهم شقته الجديدة. وقد رفض أن يستقبل العزاء في عائلته المشوية. وقال: إن الوقت الحالي صعب للغاية ويحتاج منا الانشغال بالهموم النملية الكبيرة بدلا عن مصائبنا الصغيرة.


أنا شاعر اسمي يحيى، مفتون بالسريالية والبويهمية، وأعيش على نفقة المستعمرة، دام فضلها. أعتقد أن الحرب شكل مكبر وطاغ يعبر عن هذه السيريالية. ولكني أقول بصراحة، أن كل ما يهمني هو الا تنقطع امدادات التبغ هذه الأيام العصيبة. انظر معي.. لو تأملت الاشكال والصور التي يرسمها الدخان تجدها كلها سيريالية واشبه بالعبثية. وأعتقد أن الأمور ستنتهي على خير.


" نعم.. تفضل.. سأقدم لكم بياناً.. أنا الولي والعالم حاتم الرمضاني، أقول إن الحرب كانت دفاعا عن مستعمرتنا، ضد عدو يشوّه ملتنا.. ولن اتنازل عن موقفي حتى لو اغتالوني الآن.. هذه اللُحيظة.. وسأقول بالفم الملئان واعترف ..أني كتبت قصيدة لبيك يا جلال، في سبيل نصرة قائدنا الذي أمرنا.. ونحن جنوده بالذود والدفاع عن المستعمرة الجليلة المقدسة.. وسأقول لكم مرة أخرى.. إن وليّ، هو الله وحده. والتاريخ النملي سيشهد لي بذلك.." نقلا عن صحيفة المشهد المستقلة، من لقاءها مع الوليّ حاتم الرمضاني.


عبدالله يحدث صديقه عبيدالله النملي وهما يجران جرادة نافقة: أنت الآن تتنازل عن كل أفكارك الثورية والنملية.. يا لخسارتك!. الآن  وهنا.. نفترق، ولكن بعد أن نشبع من وجبتنا هذه، بالطبع. اسمعني.. في الحقيقة لم تعد هناك حاجة لنبقى معا. أنا حزين جدا لضياعك.. أنت تعرف جيدا أن ولاءات النمل البيض المشبوهة ستجر علينا حربا يوما ما، سنخوضها اليوم لنكسب، عوضا عن الإنتظار لغد وقد نخسر. الثورة دائما فكرة استباقية! انت علمتني هذا.. ما الذي وقع لك ؟!


قالت السيدة موران الشاهي، في وقتها المخصص داخل " الخازوقة"، إنها ترى أن الدفاع عن المستعمرة كان نابعا من نمليتها الطبيعية. فليس من حق المستعمرة البيضاء أن تتخرب من الداخل وتلوح لنا،  بأنها ستشن هجوما علينا مدعوما من قوى أخرى. وتقول إن هذا الدفاع ينبع من مسيرتها النضالية في الرفع من الحريات وترسيخ مفهوم الليبرالية، وحقوق السيدات النملات الحمر، والحركة النسوية النملية.


تنتشر شائعات عن فض مظاهرة صغيرة لطلبة من النمل في مدينة ساحلية، تنادي بإيقاف الحرب، لسقوط ضحايا من الأسر المدنية والتي لا علاقة لها بسياسات دولتي النزاع. ورفعوا ضمن شعاراتهم " ما ذنب الأطفال والنساء؟". لم يتم التأكد من صحة هذه المعلومة حتى اللحظة. 


عدلّت ثومة شهاب، الطبيبة، من زيها المهني الأبيض، وهي تقف أمام مرآة الخازوقة. وقالت: إن عيشي في مستعمرة نملية متحضرة، وغربتي عن المستعمرة الحمراء، ورغم شهيتي القرائية التي تكاد تقضي عليّ، وكتاباتي الدائمة بشأن الكتب والحياة والناس، إلا إني انظر لهذه الحرب باعتزاز. يجب أن يُسحق المعتدون. يجب أن ننتصر على الظلام.. عاشت مستعمرتي وعاش الريس جلال.


خرج المجدد الديني حسان رقبة، من "الخازوقة" دون أن يتضح موقفه بشأن الحرب. أعاد أحاديثه القديمة عن لفت النظر للعدو الأكبر، الشيطان الرجيم. ويُقال أن مرآة الخازوقة سجلت احتيالات وجهه، حيث يؤكد الفريق المناصر للحرب، أن حسان ليس إلا ذنباً مدسوسا لمستعمرة النمل الأبيض. 


قامت جماعات من النمل ذو الدم الأحمر الأصيل بنحر سبعين جرادة، في احتفال شعري يحتفي بالريس جلال. وأعيد بث التلفاز لنقل هذه التظاهرة النملية العظيمة. تمتعت بها السيدة نوال، وقالت لبعلها في تحفز ورغبة خفية: ربما أن البث عاد ليستمر. فهي تتحرى بشوق تسليتها العصرية مع المسلسلات العالمية المدبلجة. 


الصحفي النقي نادر جليل، قال بتعتيم، في وقفته داخل الخازوقة، أن من الأفضل أن نهتم بمسألة الفنون عند جيلنا النملي القادم. واستشهد بوقائع الأمم النملية الأخرى التي نهضت بعدما ساهمت الفنون في ترتيب أولوياتها الفكرية والنهضوية. علّق بعض شباب المستعمرة على آراء الصحفي نادر، بأن السُكر قد لعب في رأسه!. 


الإقتصادي المختص، ضرغام الخامل؛ أشار في وقفته الخازوقية، أن على قادة المستعمرة والريس جلال، حساب الإحتياطات المالية المخصصة للدفاع. وردد نافياً، أن التحليلات العالمية أخطأت في حساباتها المالية الحربية في اقتصاد المستعمرة. وقال: أعتقد أن حساباتهم لم تكن دقيقة. 


تاجر الكتب محي سليم، يتناول قهوته الصباحية في غرفته الطينية بالمدينة الجبلية هِنال. في الظهيرة استدعته شرطة المدينة، وسلمته أمراً بغلق المكتبة ومصادرة كل ما فيها. في الليل، ابتاع كميات استهلاكية من السكر وحبوب الفاصوليا تكفيه لمدة شهر، وأغلق على نفسه الباب. بعد سنة، وُجد في يومياته سطراً وحيداً يقول: حاصرني النمل.. اللعنة دائماً عليهم!. 


أمر الريس جلال ببناء مدينة طبية على الحدود مع المستعمرة البيضاء، لاستقبال الجرحى والمصابين من الجنود. بعد سنة اصاب صاروخ نملي أبيض المدينة، وأجهز على كل الألم النملي المكدس فيها. كتب شاعرٌ حينها: وجاءنا المطر.. وكان القمر مخسوفاً. 


وقعت اتفاقية مع مستعمرة البعوض الكبرى، لتبادل المعلومات الاستخباراتية والحربية. كلفت الاتفاقية المستعمرة، سبع سنوات من امدادات براميل الدم المعتق الجاهز لمستعمرة البعوض. أشاد بعض محللي المستعمرة في وقفتهم الخازوقية بالاتفاقية، ورددوا مرمزين حالة التقشف القائمة، بأنها سبعٌ عجاف، يُغاث النمل من بعدها ويشبعون. 


أنا جواد قصاب، ممثل تلفزيوني عام. نفيت نفسي طواعية. مريض جداً، وفي أيامي الأخيرة.. ألوك ذكرياتي كأي شيخ نمولي خائر على وشك النهاية. فضلت أن ابتعد عن المستعمرة حتى لا اصيبهم بالعدوى. إن التضحية عادة نملية قديمة وأصيلة، أخذت تندثر وتفقد قيمتها. إن ما يشغلني في الحرب هذه، فكرة التضحية، هل هي جديرة ومستحقة؟!. من يقدر على فهم تضحية جنودنا هؤلاء؟!.


أشارت صحف المستعمرة البيضاء، عن شبه اتفاق لتبادل الأسرى، ورغبتي الزعيمين من خلال اتصالات مقربين، في احداث هدنة لالتقاط الأنفاس والتعبئة. من جهتها، نفت صحف المستعمرة الحمراء هذه المزاعم عبر مصادر رسمية، وأكدت أن القضاء على المتمردين المحصنين في الجبال والمشردين، هو الهدف الذي لن تتوقف الحرب بدونه. 


الشاعر الجنوبي زيدان لمعة، والمتزوج من سيدة تنتمي للمستعمرة البيضاء، وقف صامتاً بشنبه في لحظته الخازوقية. ينقل أصدقاء له، أن نمليته الداخلية تكاد تقضي عليه، فهو يشعر بالأسى بعد أن عاش على الأمل، وأن أشعاره الكثيرة التي لم تنشر لن تنشر.


بعد سنة، وقف متحدث المستعمرة جبرة سحسوح في ثياب مهرج ملونة، أمام مرآة الخازوقة، وقال: إن اختلاف الألوان بين المستعمرتين لم يكن سببا في هذه الحرب أبداً كما يروج البعض. واضاف: إن أفراد المستعمرة البيضاء هم في الأصل إخواننا وجيرتنا، وإنما نود أن نحل هذه المشكلات ودياً وعلى طاولة من التفاهم، وإن عدونا هو مكوّن من النمل الأبيض المتعصب والمجنون، والمستتر داخل مستعمرة أشقاءنا البيض. ثم أخذ لفة بتنورته المروحية، ليبرز جمال تعدد الألوان فيها.

يحكى في أدبيات الزمن النمولي القديم، أن نمولا تائهاً في الصحراء، يصيح في التلال: ما معنى هذا ؟. ينقل الراوي مستكملاً : إنه لا زال يصيح !



2015

التتمة... Résuméabuiyad

اشعار # وقصص $ ونقود & الكونت المؤمن المتقاعد جريابوف














#
انا اقف الان على مرج العالم
ارتدي شروال البيجامة وحده
انا اقف في رأسي
ويديّ ملقاة على الارض
يسيل دمي في اوردتي
واضحك من هذا السيلان
ابدلوني قلب خنزير
حتى اعيش مدة السبات
ينز من ابطي عرق قذر
اجامع دمية في خيالي
كأنها وجه الملك
وطني تحت قدمي
انا في رأسي 
ووطني تحت قدم الراعي
بكل ووجوهه المرقطة 
ومؤسساته العالية والمذهبة
بعبيده واحراره وشيوخه وفقراءه
امشي فوق المرج
مشية صعلوك رعديد
ليس هو الشنفري
ولا محمد شكري
لا احمل في رأسي ورقة حناء خضراء
لا وزنا او شيئا
امشي فوق مرمر الوادي
مشية طاووس معتل
وجهي الاغبر ارضي
الوسخ تحت اظفاري قبلتي
انا اسكن في عمودي الفقري
واركل خصياني عند بزوق الفجر
تعصر لي ماء الحياة
انا أبدي
أي نسمة هي لي
وأي شقشقة لا تعنيني
اَندس في عباءة أمي
وارتعد
البرق يلج احشائي
وجدتي تضحك وتقرص حلمتي
انا امشي في رأسي
في بطني بحيرة طعام معجون
يخرج منه خراء
في ثقلي دودوة نصارية
وفي ظلي 
امتد وانام..
24 سبتمبر 2013


#
قصيدة الصباح هذه المرة عن إبراهيم 
قصيدة الفجر المؤبد
والنذور الممجدة في النفوس والبراري
فإذا ما فضضنا العهود 
فإننا سنكتبها مرة ثانية بالمعاويل والكلام
في صدورنا من قبل مخرج الشمس علينا 
يا ربنا عند الصباح
ادور في غرفتي افتش عن بعوضة ملعونة
لاكشطها من على أسطح هذه الكتب الباردة
أو ما بين الصحون البائتة وبقايا الطعام 
وانحناءة الخوف والذكرى في هذه الحقيبة الكبيرة العذراء
كم يخدش روحي الآن مثل رغبة الليل في البقاء 
والرياح في العويل او الارتياح
كم يا ربنا في العالم مثل إبراهيم 
يعاندون الجنون في أرواحهم 
ويدلقون على الوجوه ماءً باردا
عند الصباح 
قبل أن تزهر الأغنيات فتاة بنهدين شيقين
أو قبل أن تخرج الطيور من أعشاشها
يا ربنا كم في العالم من زهور وأقبية
ومجاعات 
ويسبقنا الخلود والشقاء فنصبح عيالك الخالدون الأشقياء

1 ابريل 2013






#
قصيدة المرج الذهبي وأنا 1786
وقفت في وسط سفيتني
في ظلمات البحر الهائج 
كانت السواري تغني اغنية الهلاك الاخير
والببغاء المسجون يصيح فيّ ان اطلقه 
" كم هو مخجل ان اموت غرقا !"
كنت نصف قبطان ونصف قرصان
شري قليل لكنه كاف 
اجامع النساء الكبيرات في مواخير الموانئ
واقرأ لهن قصيدة جدي الاكبر موزو
"النسر موزو ملك القلعة"
واشرب الخمرة حتى اغيب
لاصحو على اخبار سرقة مدبرة 
لطالما احترمت اللصوص 
فوحدهم علموني الحقد والامل 
سكت البحر وعاد الهدوء الينا
كنت حينها ارى سفيتني مرجا ذهبيا
عائما وكبيرا 
كنت اقف عليه عائما 
كان الموقف مذهلا 
يشبه الخيال او ابعد من الخيال
كان معجزة




#
صديقي أيها الرائد
اني اكره ان اكون صدى
او اتعاطى مع افكار السلاحف
لكني افسح لها الطريق
واحترمها اذا التقيتها
اذا بنيتُ معتزلي 
لن اقبل الصخور او الاشواك
ولن اصرخ كمعتوه البرية
ولكن سامضي الى اخر رحلتي
كحيوان منوي خبير وعتيد وشرس
لا يقبل بالهزيمة 
وان مات مهزوما مكتئبا
سأكون جامحا بعض الاوقات في حياتي
وسأطور من ضحكتي 
لتناسب صدري الذي اخذ يتسع 
دون ان الاحظ اضلاعه 
صديقي أيها الرائد 
ما اعجب الطريق وكل شيء هنا
وكل شيء خلفي لا اراه
ما اعجب ما لا اراه..



$
لما شكى السيد ح.ن اليّ مسألة ابنه الرضيع اوليتها كل اهتمامي. كان طفله نوح يعيد المزج بين انسجة الحمام الميت وانسجة حمام حي من فصيلة اخرى ذات قرابة ليستنسخ عضلات امهر للاجنحة. في الثانية والعشرين من عمره اصبح متمرسا في تحسين طير الحمام جماعات. فقد كانت بعض القرى تلاحظ ضعف افراد من الحمام في متابعة التحليق مع جماعة الحمام في لحظات استجمامها قبل الغروب وفي الضحى. كانت تقنيته تقوم على تحسين مهارات الحمام الضعيفة حتى تفهم اشارات القيادة الجماعية التي تقوم بها الحمام معا، فيقل هذا الارتباك حتى يختفي تماما. وفي الاربعين من عمره تحول الى حمامة، وضاعف من جهده فبات يواجه مشاكل الحمام وهو في السماء وكثيرا ما رأيته يحمل مكبر الصوت بين جناحيه. التقيته البارحة في بار عتيق يرتاده الحمام المتقاعد وبعض البشر. رقصت مع نوح رقصة الصاعقة ورقصة النور الابدي ورقصة عندما يمر قطار الاله. اليوم وهو في السبعين من عمره بات يعمل متطوعا مع قنوات ديسكفري وناشونال جغرافيك، ينام قريرا ولا يشكو الا من بعض الالام في عينه ومنقاره. ويرفض دائما ان يدون قصته الغريبة.


$
عملت في الماضي في دكان جدي يحيى. وكان يصطحبني مع حماره كل خميس الى السوق. وفي الطريق وعند مكان اتذكره جيدا حيث تتكاثف الاشجار كان ينفس عن غضبه بضرب الشجر بعصاه حتى تتكسر، ثم يمسكني من عنقي ويعفر وجهي في الارض على التراب ثم يبصق عليه، وهكذا طوال عدة دقائق، فيمتلء انفي وفمي بالتراب والاغصان اليابسة المتكسرة الصغيرة، وتتجرح خداي قليلا.

&
كنت اتقلب على فراشي عند السابعة والنصف صباحا. العرق يدبق جسدي العاري، لست نائما ولست متيقظا، حالة عالقة ومشوشة من الوعي والانغماس او الغيبوبة. ومنذ عدت من السفر قبل ثلاثة اشهر لم ينزل المطر، واخيرا قمت من فراشي على صوت خطيب المدرسة يستسقي المطر، ويقول "اقلبوا ارديتكم.. ليبدل الله حالنا الى حال اخرى". توقفت امام شباك غرفتي، فاذا الضباب يغطي نصف الجبال، وبعدما انهى المحتسب خطبته لبعض الوقت، تقشعت السحب وظهرت السماء وخرجت علينا الشمس المعهودة.

$
حين ذهبت بابني الى المدرسة وجه اليّ مدير المدرسة انذارا بسبب التأخير، كان هذا منذ ما يقارب الشهر. وقبل خمسة ايام وجه اليّ انذارا اخرا، طلبت منه الانتقال معي الى الحمامات القريبة لنتناقش بهدوء، ثم تناولت عصا مسّاحة الحمام ومررتها في فمه حتى تصلبت في اخر امعائه بعدما مزقت بلعومه ومعدته وبعض اشحاءه. والان اقضي فترة من الهدنة معه، وقد اعتاد ان يحضر الطابور الصباحي واجتماعات هيئة المنطقة التعليمية والعصا في فمه.


#
قصيدة الدرج المستحيل..
اذا صعدت تصعد صعودا 
واذا نزلت تنزل نزولا 
اذا اشتقت ان تشتري فيشارا فقد تشتري فُشارا
واذا صاحبت علب الماء الفارغة ستكون فارغا
اذا كنت أبا ستكون مهتما
واذا كنت رجلا قد تكون سفاحا
واذا كنت شاعرا ستحب الدرج المستحيل
وقد تنقش على نفسك الحب او الشيطان
اذا كان مزاجك حسنا ستقبل بالعزاء
واذا كنت مظلوما فستكون جادا 
اذا مازحت غرابا قد ينعب عليك وعلى والديك
واذا قذفت بمبادئك من الشباك قد تكون حرا




#
- ما قصيدة اليوم ؟
- بل قصيدة ما بعد الغروب
- كما تحب.. تفضل
- انه القمر وتقف الى جانبه نجمة
اذا نظرت اليهما تشعر بالغنى
واذا خفضت بصرك تسمع اصوات الصغار
يلعبون الكرة
عشرين هدفا مقابل ستة عشر
يخرج من القمر ضوء يذكر بليال قرية انتهت
وطائرة تعبر الجو تحت القمر
والسيارات تعبر الشوارع
وانا اغالب عطسة قوية
وقلبي ساكت بلا شيء
- انتهت هكذا
- نعم 
- اعجبتني 
- اشكرك





#
- عن ماذا تريد ان تعبر ؟
- عن السماء
- وماذا تود ان تقول عن السماء ؟
- اود ان اقول السماء السماء
- لمن تبتاع هذه السجائر ؟
- لأبي
- وأين ابوك ؟
- مستلق على سريريه في البيت
- ماذا يفعل ؟
- يضحك مع النجوم
- وانت الى أين تمضي ؟
- الى المجد الأبدي عند قمة الجبل هذه
- كم عمرك ؟
- سنين طويلة وشيئاً الضحك





#
قصيدة الشتيمة - 1993
اذا اقبلتم ايها الناس فاك يو
واذا اتيتم فاك يو
واذا جئتم فاك يو
واذا جلستم امامي فاك يو
واذا نظرت الى وجوهكم التعسة فاك يو
واذا قلتم لي خبرا فاك يو
واذا انتظرتم قطارا فاك يو
واذا ارتحلتم بأحزانكم فاك يو
واذا فضلتم كاتشبا مع وجبتكم فاك يو
او زيتونا اخضرا مع الجبنة المالحة فاك يو
واذا تنزهتم في الحديقة فاك يو
واذا اشتريتم مزهرية بورود صناعية فاك يو
او بدون ورود صناعية فاك يو
اذا كتبتم اصطناعية بدلا من صناعية فاك يو
واذا ازلتم شعر آباطكم فاك يو
اذا تحدثتم فاك يو
واذا مارستم الجنس فاك يو
واذا شعرتم بالخذلان أو الكره فاك يو
اذا كان تاريخكم يشدكم من رؤوسكم فاك يو
واذا كنت تخجلون من اساتيذكم القدامى حين تلتقونهم صدفة في الشارع فاك يو
اذا كنتم تكتبون فاك يو
واذا كنتم تثرثرون فاك يو
واذا كنتم تكتبون هراءكم العاجي النبيل فاك يو




$
- قصة الرجل الذي يزرع شجرة ليتظلل بها من الشمس، أي القصص يمكن تضاهي هذه القصة او تهزمها ؟!. 
- أبداً .. لا يوجد 
- اشكرك أيها اللامع .. صافحني على هذا، بل دعني اصافحك 
- أهلا بك..
- مرحبا 
- قصة كبيرة، نعم اوافقك على هذا جدا، ربما لن اتنازل عن رأيي هذا لخمس سنوات قادمات..
- دعني اقبلك في وجنتك، واصافحك مرة اخرى، هكذا.. تماما كما ذكرت "قصة كبيرة"، ياله من تعبير عظيم.. " قصة كبيرة" .. ااه، اعتقد انه اقرب ثناء الى نفسي سمعته منذ فترة ليست بالقصيرة يرد على أعمالي.. ثم انني.. اسمح لي، ان اقوم اليك واتقدم بتقدير المهلة التي اضفتها على التزامك الزمني لمدة خمس سنين.. هذا يريح مطامعي الأدبية نحوك..
- اتعاهد اليك.. خمس سنين.. متتاليات.. أبدا، لا يمكن. اكتب هذا عني، لقد علقت فوراً " قصة كبيرة" دون أي شيء.. 
- الشجرة مع الأغصان والظل يأتي تحت الشجرة والرجل يكون في الظل، يقف او يقرفص، ثم الشمس من هناك.. من الخلف او الفوق.. فعلا " قصة كبيرة".. انه التعليق المناسب جدا.. الله.. هكذا. سأكون مبتذلا لو صافحتك أخيرا.. ولكن لا احتمل مشاعري، اليك يدي... نعم بحرارة..
- سأصافحك كل مرة وفقا لهذا




$
بدأت ارى صديقي الميت قبل ثلاثة عشر سنة كل خمسة ايام منذ بداية العام. اتعلق بلحيته ويطير بي في السماء. ويهبط بي كل مرة عند بيت جدتي البعيد، فاعيد وصل الحرارة لهاتفها والتهم الأكل الذي يضعه المحسن على عتبة بابها، واعود مشيا الى بيتنا. فاذا رن الهاتف اقوم فألبس وامشي اليها مسافة ساعتين لاجيب على الهاتف.



&
لاحظ معي ان هذا كاتب محلي شاب. يختار مثلا مكانا كبرلين او باريس تحدث فيه القصة، وشخصا يدعى روغو او فرانسو ليمثل دور البطل. هذا الكاتب المجتهد قرأ اعمال عالمية - ما شاء الله عليه، وهو متأثر بها. انه يعتقد انه يستطيع ان يفهم جاذبية وافكار السيد روغو، او يبحث في آلامه النفسية والمجتمعية. انه يحاول ان يتمثل دور الاعمال التي قرأها. يعبر طريقا مختصرا الى قلوب العالم، هكذا قرأ النشرة وانطلق فورا الى خط السباق ثم هوووو اندفع كالمقذوفة المدفعية. يتحرك هذا الشاب السعودي ذو المستقبل الروائي القصصي المنتظر في حياة تختلف تماما عن الحياة التي يعتقد انه يعرفها بواسطة تصورات خياله التي تصنعها قراءاته، ولكنه بكل أناقة الاختباء الالكتروني المجيد هذه الأيام المباركة، يتجرأ ويكتب بلغة هادئة عجيبة. انه يسطر اشباحا في رأسه، لا وجود لها. مغرم هو بالاسلوب العالمي، يعتقد ان الامر له خلطة معينة او بهذا التعقيد والتركيز المحكم. خلطة ما تدفعه الى كتابة شيء لا يشعر به، ولم يختبره - يا للقسوة!- ولكن لأن الفكرة مثيرة، فلماذا لا ؟! . محاولة جيدة، أيها الفتى الخلاب؛ لا تحاول مرة اخرى. هذا الهراء، مقدورٌ عليه الآن. وسنعيد الدرس كل مرة، الذين كتبوا الخصوصيات، المغرقين في المحلية.. شوارعهم، حاراتهم، قراهم ،مدنهم ،لغتهم ،شخوصهم، نكتهم.. الى اخره، كانوا يكتبون عالمهم وعالميتهم رغما عنهم. لأن التفاصيل الخاصة جدا الغريبة جدا هي مثيرة للعالم جدا ومستفزة وغنية. والآن وبسبب خصام بيني وبين لغة السخرية وقع في الايام الماضية، فهذا يكفي ايها الشاب الشيق الفالح النبيه.



$
قال الراوي البط: انطلقت ثلاث بطات في رحلة طويلة لاستكشاف الدنيا، احداهن بمنقار ذهبي تمارس كتابة الشعر الحداثي، والثانية تسرق الآلات والاشواق وقت الحروب، والثالثة تفكر في قول احد السلف فيمن نجا كيف نجا؟. ولما عمن نهر السعادة وعبرن الى ضفة الخوف الكبيرة تراءت لهن اصوات جافة عمياء تخرج من حلوقهن. كنتُ حينها قد سمعت بقصة البطات الرحالات الثلاث، وخرجت الحق بهن، حتى التقيت بهن عند جبال الاطلسي أواخر الصيف. واخذت ادون مشاق وطرائف رحلتهن الطويلة. كان الناس يستقبلوننا في مدخل كل قرية بالورد والسجائر المعطرة. قال الراوي: وقد اعلن حاكم العالم حينها انتهاء حقبة المدن والعودة الى زمن الضفاف والقرى والاناشيد.




$

تسكن في الدور الثالث السيدة ن.حماد، في الاربعين، ضخمة وتمشي بتثاقل. تقضي فترة ما بعد الظهر في الخيالات الجنسية، تثيرها بعض الافكار والمناظر التي تراها من شباك شقتها المطل على شارع متفرع عن الشارع الرئيسي. تتخيل النساء كثيرا. تضع زينة فائقة على وجهها، وتبدل الاقراط في اليوم اكثر من مرة. قبل النوم تستغفر وتخاف ان تموت اثناء نومها. مد لي بواب العمارة ظرفا وقال لي انه من السيدة ن، من الدور الثالث. في الرسالة تدعوني الى الغداء وممارسة الاستمناء معا. تحدث هذه الزيارة مرتين في الشهر على الأكثر. ننظر الى بعض بعد الوجبة التي تعدها باهتمام كبير. قليل من الحديث، والصمت الطيب. ثم يحك كل واحد منا منطقته امام الاخر، واذا انتهينا ندخن سيجارة، ونلتقي في الموعد القادم.

$
وقع خصام بين جارنا ن.ن.ح والجار الجديد ح.ح.م. واجتمع حكماء القرية فقرروا ان يقيموا مأدبة او وليمة ويجمعوا فيها الجارين، ويدفعوا بالموقف ناحية التصالح المحتم. وهي خدعة نفسية ذهنية، تأتي بنتائجها الحسنة كل مرة. اذ إن تجمع الناس بنسائهم وأطفالهم وكبار السن وأهل الرأي معا، والمال الكثير المنفق على الأكل والزينة، كل هذا وغيرها من الحروب النفسي القصيرة، تدفع الى قبول التصالح من الطرفين حتى لا يقعوا في تشويه صورهم العقلية عند الناس، والموقف يضطرهم للتغلب على شهوات انفسهم ومطامعها. وفي اثناء تلك اللحظات الحرجة، خرجت اتنسم بعض الهواء البارد، كان هناك نور ابيض غريب مسلط على شيء ما في احدى هذه الاراضي الزراعية المتروكة. ولما اقتربت وجدت جملا واقفا بجانب اخر مقعد وكأنه لا يقدر على الحركة بسبب طعنة او كسر في قدمه او يده. لم يلتفت نحوي لما اقتربت منه، ولكن عينه كانت ترمش بانتظار ممل. وكأنها كانت غير مرتاحة لهذا النور الابيض المسلط عليها وسط هذا الظلام.





&
قرأت عند مكسيم غوركي هذه النقود عن تولستوي في ديستويفسكي.
" انه يكتب بلغة رديئة، ويجعل اسلوبه بشعا عن قصد - عن قصد. أنا واثق من ذلك، من قبيل التكلف. وهو يحب أن يلفت الانظار - ففي "الأبله" تصادف كلمات "وجنة" و "اختيال" و "دالة متباهية" مختلطة بعضها ببعض. أظن أنه كان يبتهج بخلط الكلمات الروسية العامية بكلمات من اشتقاق أجنبي. ولكنك تعثر على فجوات لا يمكن اغتفارها في كتاباته. يقول الأبله : " الحمار هو شخص نافع له قيمته"، لكن أحداً لا يضحك على الرغم من أن هذه الكلمات لا يمكن إلا أن تثير الضحك، أو شيئا من التعليق على أقل تقدير. يقول ذلك أمام ثلاث شقيقات يطيب لهن أن يسخرن منه، وبخاصة أغلايا."
وقد اعتبر الكتاب سيئا، لكن عيبه الرئيسي هو ان الأمير ميشكين مصاب بالصرع. لو أنه كان سليم العقل لكانت سذاجته الصميمية ونقاوة سريرته تؤثران فينا بصورة عميقة. ولكن دستويفسكي لم تواته جرأة على أن يجعل منه رجلاً معافى. وفضلا عن هذا فهو لا يحب الناس المعافين. كان واثقاً أن العالم كله مريض لأنه، هو نفسه، كان مريضا.

" كتب دستويفسكي عن واحد من شخصياته المجنونة أنه ظل طوال عمره ينتقم من نفسه والآخرين لأنه خدم ما لا يؤمن به. لقد كتب ذلك عن نفسه، كان من السهولة بمكان أن يقول ذلك عن نفسه".

- الحَّ مرة بصورة ملتهبة على أن ج.إ. أوسبينسكي كتب اللهجة المحلية لتولا ولم يكن موهوبا على الاطلاق، ومع ذلك خاطب أ ب تشيخوف في حضوري قائلاً: هذا كاتب حقاَ ! يذكر المرء عن طريق جبروت صدقه بدستويفسكي، ولكن دستويفسكي كان مولعاً بالكيد والتباهي - أما اوسبينسكي فهو اكثر بساطة وصدقاً. .....

"- كان ينبغي له أن يدرس عقائد كونفوشيوس أو البوذيين، ولو فعل ذلك لاستكانت روحه. ذلك الشيء العظيم الذي ينبغي لكل فرد أن يعرفه. لقد كان رجلاً يفيض شهوة عارمة حين يغضب تظهر أورام على صلعته، وتختلج أذناه. كان يحس كثيرا، ولكنه لا يعرف كيف يفكر، فقد تعلم التفكير من أتباع فورييه ومن بوتاشيفيتش وأمثالهم. ومن ثم عمر قلبه بالكراهية لهم طوال عمره. كان ثمة شيء يهودي في دمه. وكان عديم الثقة، مغرورا، ثقيل الطبع وتعيساً. ومن الغريب أن يقرأه كثيرون من الناس - فأنا لا أفهم لماذا يفعلون ذلك! فهذا صعب وتافه - جميع أولئك البلهاء، والمراهقين وأشباه راسكولنيكوف والآخرين لم يكونوا على شيء من هذا القبيل، فقد كان كل شيء أكثر بساطة وأكثر قابلية للفهم حقاً. لماذا لا يقرأ الناس ليسكوف في هذه الأيام ؟ انه كاتب حقيقي."



قلت لتولستوي: ديستويفسكي بعتلك كلمني شكرا.




$
الليلة كان الاجتماع السنوي لجمعية خفافيش البلدة. وصلتني الدعوة من مندوبهم العام بعد المغرب. وقفت على المنصة القي كلمتي المختصرة كالعادة وابارك لهم احتفالهم، وفي هذه الاثناء تذكرت حبيبتي البعيدة. لاحظ الامين العام تشتتي والارتباك الذي وقع. بعد العشاء وحين انفرد بي الامين في مكتبه، اشار الى الارتباك الغريب. نظرت الى كأس حليب البقر الطازج الذي اشربه، وقلت له: تذكرت حبيبتي البعيدة. انتهى الاجتماع مبكرا عند منتصف الليل، ومضيت اعود الى غرفتي في نُزل الشرق، لاحظت في الطريق ان انوار الشوارع مطفأة، وكلب جارنا رابض ينظر برتابة.



&
هناك طريقة سينمائية وقد نعتبرها تميل الى اجواء المسرح قليلا، وهي تلك اللحظة الاخيرة او ما قبل الاخيرة التي يتذكر فيها البطل فكرة عزيزة، او حدث قديم وقع له في طفولته او شبابه، او صورة او لوحة كانت تتوسط حائطا في بيتهم او بيت عمته، او قصة عابرة حكاها له جده او اباه عن شيء ما، او يتذكر قطة او اسم كلب جيرانهم وربما به عرجة في قدمه فيعرج الكلب حين يمشي، او يتذكر لعبته الصغيرة التي حصل او لم يحصل عليها، طبعا وهو يضعها في حكاية ما، او يتذكر حماقة فعلها يوما ومدى جمال سخفها الان، او مغامرة ما ويفاضل بينها وبين ما يحدث معه، وهكذا الى اخر المشاهد والافكار هذه التي لا تنتهي، والتي تمثل لكاتب المشهد او السيناريو الخلاصة ذات الانفجار الهادئ، ذلك الانبعاث الاخير الغريب من العقل اللاواعي او اللاشعور. والهدف منها ان تضيف معنا ختاميا حكيما او غريبا او يحمل طابع اليقظة، هو في العادة يتعلق بالمصير ومعرفة الامر، يعني معرفة ما سيؤول اليه بعد كل هذا القصة والانكشاف، وحتى لا اطيل في هذه الفسحة المناسبة، سأقول ان هذه المشاهد تصيبني بالضحك بيني وبين نفسي، ويحدث مرات ان يرتفع صوتي قليلا بقهقهة صغيرة، مع بعض الغثيان والتعب. نعم هذا بالضبط. يمكن ان تختم شيئا دون هذا. فقط لا تتكلم ، انه هذا المشهد، وشكرا.



$
يُذكر انه قبل اربعين سنة قامت القرية الصغيرة في وقت مبكر من ليلة على غير عادتها، على صوت خوار ثور يحرث مزرعة مهجورة. ويُذكر انه في تلك الليلة لُدغ صبي لامراة ارمل. فانتفخت قدمه لايام طويلة حتى طغت قدمه على القرية، وغادرها اهلها مجبرين الى رابية قرب الجبل. ولما سألته: ما الذي يحرث في داخلك؟ اجابني بصوت يشبه الصاعقة المطرية. لكني لم افهم لغته. وكل من تحدثوا معه في ليالي الصيف الصافية من بعيد حتى لا تصيبهم عدوى مرضه او بسبب عدم استطاعتهم الوصول اليه، لم يفهموا لغته الغريبة. وبعد شهور استوطنتُ قدمه المتضخمة مع بعض الصبية المغامرين. وكنا نأكل اكلا جديدا يختلف عما اعتدناه عند اهالينا. ما الذي اصابك؟. وما هذه الفكرة التي لا نفهم منها سوى نباح الكلاب وآذان الديكة؟. بماذا آمنت؟. كيف ولماذا؟. ثم اخذت شعور رؤوسنا تتساقط وتمشي على اقدامها. ولم نكن نلهث خلفها. بعد سنة عرقل تضخم قدمه جبل كبير، لم نكن نبلغه الا بعد مسير يوم كامل. وكنا نبصر الثور يعد على اصابعه اشياء ويفكر قليلا ثم يواصل العد ويتمتم بابتهالات طيبة، تجعلنا نبكي سريعا.





$
لا شيء يدعو الى العبث. كل شيء يدعو الى العبث. عمري عشر سنوات، اجمع بطاقات من اكياس البطاطس الرقيقة. لم يفتر الهواء في الطريق من البيت الى المسجد. وكان المطر يحفر جداول عكرة. المسافة بين شارع فؤاد والسينما سبع دقائق مشيا. كنت امشي ولا تدور في رأسي اغنية او ترنيمة. اخبروني ان صديقا لي ينتظرني ويتحدث عن ماله الذي اقرضني منذ مدة. ثم اجتمعنا بين صلاتي المغرب والعشاء فوق المسجد نأكل شعيرية الاندومي نيئة. قلت له: هذه افكاري؟. اما الرجل الذي كاد ان يموت وقد افرطت في الشراب، فاني تلقيته بيديّ، وبعثت له قصاصة بالحبر السري. وكانت اذناي تلتقط اصوات الديكة والكلاب والشاحنات عند الفجر فلا ترسم شيئا.




$
في تلك الليلة حدثت جريمة ارعبت اهل البلدة الهادئة الصغيرة. وانتقلت منها الى بلدة اخرى باردة حينما ادركت ان القاتل يتتبعني. لم تكن لي علاقات سوى بعامل محطة الوقود والبائع في متجر المحطة، ونحن نتبادل التحيات الصباحية والمسائية. بعد شهر حدثت جريمة اخرى، وعادت لي ذكرى تلك الليلة وصورة القاتل وهو يراقبني. ابتعت مسدسا، ووقفت في الطريق اطلق النار على المارة. كان يهربون مذعورين.





$
منذ قليل هبطت على شجرة في نجم قديم. خدشت وجهي الغصون الشوكية وتخرب هندامي. بعد ما يقارب ساعة مسحت فيها المكانات القريبة قررت ان يكون سكني عند الشجرة. نمت نوما هنيئا، حتى ايقظني صوت قطرات تسقط في تتابع زمني دقيق. هجست ان طيرا ما خطف من فوق رأسي، وشعرت بريح باردة تأتي علي. ولما مضيت قليلا تبعتني الشجرة بخطوات متثاقلة. بعد اسبوع تفجر جزء طرفي من النجم. ولاحظت ان النار التي خرجت منه كانت بلون اللؤلؤ وتلمع. كنت اعتقد اني سأتعلم ميزات جديدة من العيش على النجم. استيقظت اخر السنة في وقت الضحى الليلي وكانت نمور افريقية تعبر بجانبي ولا تنظر الي كثيرا.



$
انت تريد ان تكون فنانا؟. لكنك مريض؟. ارتعاشة في يدك؟. تنبت في رأسك مواسير نحاسية؟. تفكر انك فعلت شيئا لم تفكر عنه او فيه؟. ثم تفكر انك فكرت انك لم تفكر حين فعلت شيئا؟. وترتعش يدك؟ وتهش بها فوق رأسك؟ قد تبيض حمامة داخل رأسك؟. تريد الرضا؟ وتمشي على قدمين ولا تسقط؟. تتبول على الحائط وتراقب حبات الحصى القليلة البيضاء في اسفلت الشارع؟. قد تضطرب معدتك؟ لا تريد ان تصبح مجنونا؟. تتكلم بطريقة مقبولة الى الناس؟. وماذا يفتنك؟. تبقى متكوما على السكون؟. وتصرعك فكرة الوجود؟. تفكر في كتابة قصة عن عقل حمامة؟. او رجل كهل يكتب الى جاره بشأن حنينه الى ابنته التي ماتت قبل خمسة وعشرين سنة؟. تعود الى نفس الطرق والمكانات؟ تتوسل الرغبة في فعل شيء؟. تكون جادا وهازئا بالناس؟. وترتعش يدك؟




$
البارحة عند الساعة الثانية ليلا وقبل ان انام سمعت طقطقة في حوش بيتنا وانا اغلق النافذة. نزلت على اطراف قدمي حذرا حتى لا اصدر صوتا. واخذت امسح الحوش بتوجس وارتقاب. ثم بعد نصف ساعة ضرب بركان مجلجل ساحة الفناء واحرق منازل جيراننا المصنوعة من خشب شجر الصنوبر القوي. حفلت بمسألة البركان قليلا. لكن أي دم لم يتصاعد الى وجهي. وبقيت مرحا اتجول في الحوش. واضرب يدي في الهواء كأني ادق مسمارا في جدار عنيد. بعد المحطة الاخيرة، وحين كان الصمت يغلف الليل وكانت الدنيا طيبة والناس متمددين في نومهم العميق، امسكت بيدي طفلة تتألم، تنظر في عيني مباشرة وكأنها تريد ان تخترقني، وتقول لي :" هكذا اردت انت يا جورج دانادان.. هكذا اردت!". باكرا في تلك الصبيحة هدأ البركان، وقعدت الاطف الحشرات والاشعار فوق اوراق الشجر. وجاء الليل مرة اخرى. وعند الساعة الثانية ليلا، خرجت الطفلة تقول لي : محظوظون انتم .. تعرفون مذاق النوم في الليل.. انا اتألم ولا انام!






&
كم اود ان يكون لي قلب شجاع. فحين اجلس على الأريكة وقد انفث الدخان وقد لا انفثه، اتحدث عن الحرب، فأقول اني وقفت الى جانب هذا الصف لأن هؤلاء قد اُعتدي عليهم في ديارهم المطمئنة. ثم انتقل ببصري الى سقف الصالة واسرد وقائع وصور تؤيد حديثي. وقد استطرد فاروي شيئا من قصص الحروب والاعتداءات من التاريخ، لاستشهد بها على رجاحة رأيي، ووجاهتي كرجل كريم متحضر ولي اهتمام بالثقافة. ثم امضي في حال سبيلي، لا اعود بيني وبين نفسي الى ما قلته، ولكني انتشي بما قلته واثرته. فلا تعني لي الحرب مثل حديثي عنها، وهذا الدمار لا يكون دمارا اذا رايت وانا على الاريكة انه لا يكون دمارا، لأنه يسحق الاعداء وحدهم. نعم، كم اود ان يكون لي قلب شجاع، فابصر جيدا الاعداء. ثم انتاولهم في حديثي الثقيل واقرعهم وربما اشتمهم واكيل لهم بمكاييل.







$

جذبني من يدي وهمس لي: أنا والله لست مجنونا، ولكني اعتقد بأن لي نصف مشنوق في تلك الأنواء. تأملت في عينيه الصغيرتين، وهو ينزف مجدداً. " هناك أغنية مبتورة مني مزروعة في أحد هذه الأنواء"، وعدت امضغ مكرها جنونه.
- ربما تقصد شاردة 
- بل مبتورة، لا تتوهم فصلاً اخراً من الحديث، إن هذا سيغير المعنى..
جذبني من يدي، وهمس لي : البارحة تفتت صخرة تحت عجلات شاحنة الزيت، كانت تصرخ وهي تتلوى، وحين جاءت مركبة الاسعاف اتهموني بالجنون، قبعت ثلاثة ساعات اشرح لضابط الشرطة كيف تبكي الأشجار بذورها، رسمت له على الحائط وعلى الهواء مخاضات الشجرة وهي تلد بذورها في جوف ثمارها، تأملني حزيناً، ثم قادوني إلى المشفى. 
كان هذا الرجل، لاصديق، يبرر أصوات الأفعال، أنت تنام ثم تضيع، أين تضيع، وأعييته مشكلة الضياع في النوم، لنقل انها قاصمته الكبرى. اخذني مرة إلى جبل ضرم في القرية، ولما انقطع الطريق في شكل دائرة في رأس الجبل، همس لي وهو يجذب يدي، وقد تجدد في عينيه بريق: أترى هذا المركز الصحي ولكن أين الطريق، لقد اختفى الطريق، أين اختفى؟. ساعة من الزمن امضيتها مع هذا الرجل ليبهرني بهذا النتيجة. كنت اتردد أن اوصمه بالحمق أو الجنون. ومرة قال لي: لا تغمض عينيك، سأسألك، حمار، كلمة حمار، كم بها حرف؟
- أربعة
- ما هي ؟
- ح م ا ر
- لا لا، كيف تتهجأ هذه الأحرف؟
- الحاء و الميم...
- والحاء هذا أليس به أربعة أحرف؟
- بلى
- إذاً، عليك أن تتهجئه أيضاً؟
- كيف أقول؟
- لا ادري.. جرّب
- الحاء، به ا ل ح ا ء، ألف لام حاء...
- والألف الذي هو الحرف الأول من الحاء به ألف ولام وفاء.. 
-....
- كل حرف به نوء فاتر مهزوم منذ ملايين السنين، علينا أن نعيد لها اخضرارها.
- كيف ؟
- لا عليك، هناك قطارات مفقودة في هذا الليل.

نحن جئنا من شجرة، الآن في لحاء كل شجرة طفل يتخلق، ألسنا نلتهم البرتقالة المدورة الناعمة، ثم تجري في دماءنا، والماء الطاهر أليس هو صفاء ذلك الدم، أنت برتقالة.. أنت الآن تينة أو برشومة ما، أكلها جدك الأكبر وهو يحرث بلاده تحت جبل خطمة قبل عشرات السنين.

5/11/2012
التتمة... Résuméabuiyad